يا أخا الأزد ما حفظت الإخاء – الشاعر البحتري
يا أخَا الأزْدِ ما حَفِظتَ الإخَاءَ
لمُحبٍّ، ولا َرعيْتَ الوَفَاءَ
عَذَلاً يَترُكُ الحَنِينَ أنِيناً،
في هَوىً يَترُكُ الدّمُوعَ دِماءَ
لا تَلُمْني على البُكَاءِ، فإنّي
نَضْوُ شَجوٍ، ما لُمْتُ فيهِ البُكاءَ
كَيفَ أغْدو مِنَ الصّبابَةِ خِلْواً،
بعَدَ ما رَاحَتِ الدّيارُ خَلاءَ
غِبَّ عَيْشٍ بها غَرِيرٍ وَكَانَ الـ
ـعَيْشُ في عَهْدِ تُبّعٍ أفْيَاءَ
قِفْ بها وَقْفَةً تَرُدُّ عَلَيْها
أدْمُعاً، رَدَّهَا الجَوَى أنْضَاءَ
إنّ للبَينِ مِنّةً لا تُؤدّى،
وَيَداً في تُمَاضِرٍ بَيْضَاءَ
حَجَبُوهَا، حتى بَدَتْ لِفرَاقٍ
كَانَ داءً لعاشِقٍ، وَدَوَاءَ
أضْحَكَ البَينُ يَوْمَ ذاكَ وَأبكى
كلَّ ذي صَبْوَةٍ، وَسَرّ، وَسَاءَ
فَجَعَلْنَا الوَداعَ فيهِ سَلاماً؛
وَجَعَلْنَا الفِرَاقَ فيهِ لِقَاءَ
وَوَشْتْ بي إلى الوُشَاءِ دُموعُ الـ
ـعَينِ، حتى حَسِبتُها أعْداءَ
قُلْ لداعي الغَمامِ لَبّيْكَ، وَاحلل
عُقُلَ العِيسِ، كيْ تُجيبَ الدّعاءَ
عَارِضٌ مِنْ أبي سعيدٍ دَعَانَا
بِسَنَا بَرْقِهِ، غَداةَ تَرَاءَى
كَيفَ نُثني على ابنِ يوسُفَ لا كيْـ
ـلفَ سَرى مَجدُهُ، فَفاتَ الثّنَاءَ
جَادَ حتى أفنى السّؤالَ، فلَمّا
بَادَ مِنّا السّؤالُ، جادَ ابْتِداءَ
صَامِتيٌّ، يَمُدُّ في كَرَمِ الفِعْـ
ـلِ يَداً مِنْهُ تَخْلُفُ الأنْوَاءَ
فَهْوَ يُعطي جَزْلاً، ويُثني عليَه،
ثُمّ يُعْطي على الثّنَاءِ جَزَاءَ
نِعَمٌ، أعْطَتِ العُفَاةَ رِضَاهُمْ
مِنْ لُهَاهُا، وَزَادَتِ الشّعَرَاءَ
وَكَذاكَ السّحابُ لَيسَ يَعُمُّ الـ
ـأرْضَ وَبْلاً، حتى يَعُمّ السّمَاءَ
جَلّ عَنْ مَذهَبِ المَديحِ، فقد كا
د يَكُونُ المَديحُ فيهِ هِجَاءَ
وَجَرَى جُودُهُ رَسيلاً لجُودِ الـ
ـغَيْثِ مِنْ غَايَةٍ، فَجاءَ اسَوَاءَ
ألهِزَبْرُ الذي، إذا التَفّتِ الحَرْ
بُ بهِ صرّفَ الرّدى كَيف شاءَ
تَتَدانَى الآجَالُ ضَرْباً وَطَعْناً،
حينَ يَدْنُو فيَشْهَدُ الهَيْجَاءَ
سَل بهِ، إنْ جَهِلتَ قَوْلي، وَهل يجْـ
ـهَلُ ذو النّاظِرَينِ هذا الضّيَاءَ
إذْ مضى مُجلِباً يُقَعِقعُ في الدّرْ
بِ زَئيراً، أنسى الكلابَ العُوَاءَ
حينَ حاضَتْ مِنْ خَوْفِهِ رَبّةُ الرَّرْ
مِ صَبَاحاً، ورَاسَلَتْهُ مَسَاء
وَصُدورُ الجِيَادِ في جانِبِ البَحْـ
ـرِ، فَلَوْلا الخَليجُ جُزْنَ ضَحَاءَ
ثم ألقى صليبه الملسنيو
س، ووالى خلف النجاء النجاء
لمْ تُقَصِّرْ عُلاوَةُ الرّمْحِ عَنْهُ
قِيدَ رمح، ولمْ تُضِعْهُ خَطاءَ
أحسَنَ الله في ثَوَابِكَ عنْ ثَغْـ
ـرٍ مُضَاعٍ أحسَنْتَ فيهِ البَلاءَ
كانَ مُسْتَضْعَفاً فعَزّ، وَمَحْرُو
ماً فأجدى، وَمُظلِماً فَأضَاءَ
لَتَوَلّيْتَهُ، فَكُنْتَ لأهْليـ
ـهِ غِنىً مُقْنِعاً، وَعَنِهُمْ غِنَاءَ
لمْ تَنَمْ عَن دُعائِهم، حينَ نادَوا
والقَنَا قَدْ أسَالَ فيهم قَنَاءَ
إذْ تَغَدّى العُلوجُ منهُمْ غُدُوّاً،
فتَعَشّتْهُمُ يَداكَ عِشَاءَ
لمْ تُسِغْهُمْ بُرُدَ جيحانَ، حتى
قَلَسُوا في الرّماح ذاكَ المَاءَ
وَكَأنّ النّفِيرَ حَطّ عَلَيْهِمْ
مِنْكَ نَجْماً، أوْ صَخرَةً صَمّاءَ
لم يكُنْ جمعُهُمْ على المَوْجِ، إلاّ
زَبَداً طَارَ عَنْ قَنَاكَ جُفَاءَ
حينَ أبْدَتْ إلَيْكَ خَرْشَنَةُ العُلْـ
ـيَا مِنَ الثّلْجِ هَامَةً شَمطَاءَ
مَا نَهَاكَ الشّتَاءُ عنها وفي صدْ
رِكَ نَارٌ للحْقْدِ تَنْهَى الشّتَاءَ
طالَعَتْكَ الأبْنَاءُ مِنْ شُرَفِ الأبـ
ـرَاجِ زُرْقاً، إذْ تَذبَحُ الآبَاءَ
بِتَّها، والقُرْآنُ يَصْدَعُ فيها الهَضْـ
بَ، حتى كادتْ تكونُ حرَاءَ
وَأقَمْتَ الصّلاةَ في مَعْشَرٍ لا
يَعْرِفُونَ الصّلاةَ إلاّ مُكَاءَ
في نَوَاحي بَرْجَانَ، إذْ أنكرُوا التّـ
كـبيرَ حتى تَوَهّمُوهُ غِنَاءَ
حَيثُ لمْ تُورَدِ السّيوفُ على خِمْـ
ـسِ، وَلمْ تُحرَقِ الرّماحُ ظَمَاءَ
يَتَعَثّرْنَ في النّحُورِ وفي الأوْ
جُهِ سُكر ظماء لمّا شَرِبنَ الدّمَاءَ
وأزَرْتَ الخُيول قَبرَ امرِىءِ القَيْـ
ـسِ سِرَاعاً، فعُدْنَ منهُ بِطَاءَ
وَجَلَبْتَ الحِسانَ حُوّاً وَحُوراً،
آنِسَاتٍ، حتى أغَرْتَ النّساءَ
لمْ تَدَعْكَ المَهَا التي شَغَلَتْ جيْـ
ـشَكَ بالسّوْقِ أنْ تَسوقَ الشّاءَ
عَلِمَ الرّومُ أنّ غَزْوَكَ ما كا
نَ عِقاباً لَهُمْ، وَلَكِنْ فَنَاءَ
بِسَباءٍ سَقَاهُمُ البَينَ صِرْفاً،
وَبِقَتْلٍ نَسُوا لَدَيْهِ السَّبَاءَ
يَوْمَ فَرّقْتَ مِنْ كَتائِبِ آرَاك
كَ جُنْداً لا يأخُذونَ عَطَاءَ
بَينَ ضَرْبٍ يُفَلّقُ الهَامَ أنْصَا
فاً، وَطَعْنٍ يُفَرِّجُ الغُمَاءَ
وَبِوْدّ العَدُوّ لَوْ تُضْعِفُ الجَيْـ
ـشَ عَلَيْهِمْ وَتَصرِفُ الآرَاءَ
خَلَقَ الله يا مُحَمّدُ أخْلاقـ
ـَكَ مَجْداً في طَيِّءٍ، وَسَنَاءَ
فإذا ما رِياحُ جُودِكَ هَبّتْ،
صَارَ قَوْلُ العُذّالِ فيهَا هَبَاءَ