ما تظنون أني فاعل بكم
ورد في الإنجيل على لسان المسيح ” لا تقاوم الشر، من لطمك على خدك الأيمن فحول له خدك الأيسر “، أما على لسان النبي المحمد عند فتح مكة فقد جاء “ما تظنون أني فاعل بكم فأجابه أهلها أخ كريم وابن أخ كريم فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء”، إنه التسامح والصفح والعفو، بها يدفن الظلم، وتسمو الأرواح، وتتنامى العلاقات بين الناس على المحبة والإخلاص، وبالتالي تنهض البشرية مما تعانيه من دموية عجيبة. فمن المتوقع أنه ومع كل هذا التطور والإرتقاء التكنولوجي الذي لم تشهد مثله الإنسانية شبيهاً طوال السنين والعقود والقرون والألفيات التي تعاقبت عليها، من المتوقع ازدياد نسبة التسامح بينهم، إلا أن العكس هو الذي حصل، فازدادت نسبة القتل وسفك الدماء فشهدت البشرية حربين عالميتين طاحنتين في أقل من ثلاثين سنة في القرن الماضي راح ضحيتهما ملايين الأبرياء. فمن الواضح أن الإنسان قد اعتد بنفسه أكثر من اللازم، ونسي حجمه الحقيقي في هذا الكون.
ومما زاد الطين بلة أيضاً، ازدياد وتعاظم المنظور المادي في الحكم والتعامل بين البشر في ظل غياب وتغييب للمنظور الروحي، وكان من أبرز أشكال هذا المنظور الفكرة الرأسمالية، التي أظهرت أبشع ما في الإنسان وخلقت عبودية القرن العشرين العبودية الجديدة، عبودية الإنسان لأخيه الإنسان عن طريق جعله ذليلاً راكضاً لاهثاً وراء قوت يومه وساعياً وراء الفتات، مهدراً بذلك أغلب وقته في العمل، فلقد سلبت إرادة الإنسان، وسلب وقته وسلب عقله وكل ذلك عن طريق الإغراءات المادية، والمضحك في الموضوع، أن هذا اللاهث وراء المال، والذي يعمل عند غيره، يجد نفسه في نهاية المطاف واقفاً مكانه، هذا إن لم يجد نفسه قد هبط إلى مستويات أدنى مما كان عليه، وفي ظل هذا الهبوط يزداد غنى رب العمل، فالقاعدة تقول، أنه وفي مقابل كل شخص يزداد فقراً هناك من يزداد ثروةً.
النظرة المادية، أفقدت الإنسان جميع المعاني الجميلة التي كانت فيه، جاعلة إياه وحشاً من الوحوش، ومن هنا فقد ضاع مفهوم التسامح، ومبداً ” ما تظنون أني فاعل بكم ” في ظل هذا الصراع الوحشي الحيواني بين بني البشر على أطماع الدنيا، وفي ظل غياب القيم، وغياب الحب بينهم، فالحب هو أساس الحياة وسرها الذي بدونه لا يمكن استمرار الحياة نهائياً، حب الإنسان لله يجعله يحب مخلوقاته بحبه لله، فمن أحب شيئاً أحب كل ما ينتسب إليه وكل ما يتعلق به، وبالتالي سمت نفسه وتألقت روحه وعادت باقي القيم والمبادئ الإنسانية السامية التي لا يمكن للحياة الاستمرار بدونها ولا بأي حال من الأحوال.
ومن طيب أخلاق الرسول ونقاء سريرته، وأهداف الإسلام العظيمة والتي لا تهدف إلى إراقة الدماء، وإنما إلى نشر المحبة والتسامح بين الناس، فقد عفى الرسول عن أهلها بعد فتح مكة وهم خاضعين، حيث كان هذا العفو من مكان قوة، وهذا يدل بدرجة أساسية على عظم الأخلاق التي كان يتحلى بها المصطفى ومن معه.