حكم الرهن العقاري
العقود في الشَّريعة الإسلاميَّة
جاءت الشَّريعة الإسلاميَّة في أحكامها المتعدِّدة ناظمةً لحياة النَّاس بمختلف شؤونها وكافَّة نواحيها، من عباداتٍ وسلوكيَّاتٍ ومعاملاتٍ، وتَدخل في جملة المعاملات التعاملات الماليَّة وما لها من صلةٌ بها من بيعٍ وإجار وشركةٍ وغيرها من أنواع العقود وأشكالها. أولى الإسلام العقود اهتماماً بالغاً حِرصاً على حُقوق النَّاس وحفظاً لها من الضياع؛ فجاء الأمر بالوفاء بالعُقود والالتزام بها في مواطن كثيرةٍ، منها قول الله تعالى في مطلع سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ)،[١]
تنقسم العقود في الشَّريعة الإسلاميَّة حَسب طبيعتها إلى أقسامٍ أربعةٍ، تندرج تحت كلِّ قسمٍ منها جُملةٌ من العقود، وهي: عقود المُعاوضات كالبيع والإجار، وعقود المشاركات وتدخل تحتها أنواع الشّركات المختلفة وأحكامها، وعقود التَبرّعات كالهبة والوصية، وعقود التَّوثيقات ومنها الكفالة والرَّهن، وتالياً في هذا المقال حديثٌ عن عقد الرَّهن، تعريفٌ به، وبيانٌ لنوعٍ من أنواعه وهو الرَّهن العقاري، وتوضيحٌ لحكمة تشريعه وحكمه الشَّرعي.
الرَّهن
تعريف الرَّهن
الرَّهن لغةً:
الرَّهن في اللغة من الجذر اللغوي رهن، الراء والهاء والنون أصل صحيحٌ دالٌّ على الثَّبات والدَّوام،[٢] وكلُّ أمرٍ يحتبس به وبسببه شيءٌ فهو رهينةٌ له،[٣] ومنه قول الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)[٤] ورهن المتاع أو السِّلعة بالدَّين؛ أي حبسها فهي مرهونةٌ بالدَّين؛[٥] فالرَّهن في اللغة إذاً راجعٌ لمعنى الثبات والدَّوام، ومعنى الحبس، وهما معنيان مُتقاربان أو مُتعلّقان ببعضهما؛ إذ إنَّ الحبس يستلزم ثبات الشيء المحبوس ودوام بقائه فيه.
الرَّهن في الاصطلاح الشَّرعي:
عرَّف العلماء الرَّهن بتعريفاتٍ عديدةٍ متقاربةٍ في معناها ومضمونها، ويمكن القول إنَّ الرَّهن هو جعل عينٍ ماليَّةٍ وثيقةٌ لدين، يستوفى ويؤخذ منها أو من ثمنها حال تعذُّر الدَّائن عن الوفاء بدينه، وهو جائزٌ باتفاق الفقهاء، واستدلوا على جوازه بقول الله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)،[٦]واستدلوا كذلك بفعل النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام-، فقد توفي -عليه الصَّلاة والسَّلام- ودرعه مرهونةٌ عند يهودي.
كما روى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام-: (خرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على أصحابِه ذاتَ يومٍ وفي يدِه قطعةٌ من ذهبٍ فقال يا عبدَ اللهِ بنَ عمرو ما كان محمدٌ قائلًا لربِّه لو مات وهذه عنده ثم قسمها قبل أن يقومَ ثم قال ما يسُرُّني أنَّ لآلِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مثلَ هذا الجبلِ وأشار إلى الجبلِ وأني متُّ وتركت منه دينارَين، قال ابنُ عباسٍ فقبض رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يوم قُبض فلم يدعْ دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمةً وترك درعَه مرهونةً بثلاثين صاعًا من شعيرٍ كان يأكل منه ويُطعِم عيالَه عند رجلٍ من اليهودِ)[٧].[٨]
حِكمة مشروعيَّة الرَّهن
شرع الله تعالى الرَّهن كعقدٍ من عقود التَّوثيقات للدُّيون لغايةٍ وحكمةٍ بالغةٍ، وتتمثَّل هذه الحكمة في الآتي:[٩]
- توثيق الحقوق لأصحابها؛ فإنَّ الدَّائن يأخذ حقَّه من قيمة الرَّهن حال عجز المدين عن سداد دَينه، ما يعني أنَّ حقَّه لن يضيع، وأنَّ المدين لن يتقاعس عن أداء الدَّين وسداده؛ لأنَّه يدرك أنَّ ذلك سيُعرِّض ما رهنه من عقار أو غيره للنقص والاقتطاع منه.
- إنَّ في تشريع الرَّهن تيسيراً على النَّاس وسداداً لحاجتهم؛ إذ إنَّ في أحوالٍ كثيرةٍ يتحرَّج النَّاس عن مداينة الآخرين وقد يمتنعون عن ذلك خشيةً من عدم سداد الأموال وإرجاعها لهم، فبالرَّهن يضمن الدائن حقَّه في رجوع مال الدَّين إليه، ما يدفعه إلى مداينة الآخرين وبالتالي مُساعدتهم على سدِّ حاجاتهم وقضاء حوائجهم.
الرَّهن العقاري وحكمه
العقار هو الثَّابت الذي لا يمكن نقله أو تحويله من مكانٍ إلى آخر مثل الأرض والبيت والمباني، ويقابله المنقول وهو ما كان قابلاً لتحويله من مكانٍ إلى آخرٍ كالنُّقود، والسِّلع، والعُروض، والحيوانات، والمكيلات، والموزونات المختلفة، والمقصود بالرَّهن العقاري جعل العقار وثيقةً للدَّين عند الدَّائن، ليستوفي حقَّه من الدَّين من هذا العقار حال عجز المدين عن السداد، أمَّا فيما يتعلَّق بحكم الرَّهن العقاري فالقهاء متَّفقون على جوازه؛ لاعتبارهم أنَّ كلَّ ما جاز بيعه جاز كونه رهناً؛ فبيع العقار جائز بالتالي رهنه جائزٌ كذلك؛ لأنَّ الغاية من الرَّهن توثيق الدَّين وحفظ حقِّ الدَّائن، وهذه الغاية تتحقَّق سواء كان المرهون عقاراً أو منقولاً،[١٠] كما أنَّ جواز الرَّهن في القرآن الكريم جاء مطلقاً، في قول الله تعالى: (وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ )،[١١].
شروط عقد الرَّهن
ثمَّة شروط لا بدَّ من توافرها في عقد الرَّهن على خلافٍ بين الفقهاء في جزئيّاتها وتفصيلاتها، وهي:[٩]
- الصِّيغة: يُقصد بها الإيجاب والقبول من طرفي العقد، ويُكتفى بكلِّ ما يدلُّ على الرضا من المتعاقدين عند جمهور الفقهاء.
- العاقدان: هما الدَّائن والمدين، ويشترط فيهما العقل والبلوغ، فلا يصحُّ الرَّهن من مجنونٍ أو صغيرٍ إلا من وليِّهما شريطة أن تكون في العقد مصلحةٌ لهما.
- المرهون: هو المنقول أو العقار المعلوم الذي جعل وثيقةً للدَّين لاستيفائه منه أو من ثمنه حال عدم السداد.
- المرهون فيه: المُراد به هو الحقُّ الذي عقد الرَّهن لضمانه، وهو الدَّين الثَّابت في ذمَّة المدين.
المراجع
- ↑ سورة المائدة، آية:1.
- ↑ ابن فارس (2002)، مقاييس اللغة، دمشق: دار اتحاد الكتاب العرب، صفحة 375، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ ابن منظور (1414هـ)، لسان العرب (الطبعة الثالثة)، بيروت: دار صادر، صفحة 190، جزء 13. بتصرّف.
- ↑ سورة المدثر، آية: 38.
- ↑ الفيومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، بيروت: المكتبة العلمية، صفحة 242، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية: 283.
- ↑ رواه ابن جرير الطبري، في مسند ابن عباس، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم: جزء1، صفحة 239، إسناده صحيح.
- ↑ مجموعة من العلماء، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الثانية)، الكويت: دار السلاسل، صفحة 175-190، جزء 23. بتصرّف.
- ^ أ ب عبد الرحمن بن رباح الردادي (8-5-2012)، “الرهن العقاري في الفقه الإسلامي”، http://fiqh.islammessage.com، اطّلع عليه بتاريخ 5-6-2017. بتصرّف.
- ↑ مجموعة من العلماء، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الأولى)، مصر: مطابع دار الصَّفوة، صفحة 186-196، جزء 30. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية: 283.