من ترك شيئا لله

مجاهدة النفس

تميل النفس الإنسانية إلى الشهوات، لذلك فإنَّ الامتناع عنها ومقاومتها يَتطلَّب المزيد من الجهد، فتكون مجاهدة النفس بحملها على غير هواها، وقد ذكر ابن القيم لمجاهدة النفس أربع مراحل؛ أُولاها السير بالنفس على طريق الهدى والوصول بها إلى دين الحق، وثانيها تعويد النفس على القيام بعمل الخير وفق ما تعلَّمت من الحق والهدى، وثالثها الانتقال بالنفس إلى الدعوة إلى الله تعالى، وآخر هذه المراحل الصبر على ما يتعرض له الدعاة من الصعوبات والمشاقّ، ولو تفكَّر الإنسان في حقيقة الحياة الدنيا لأدرك أنَّها جُبِلت على الشقاء ومجاهدة الإنسان لنفسه وللشيطان الذي أعلن الحرب على ذرية آدم منذ بداية الخلق، حيث يقول ابن القيم في وصف نفس الإنسان: (في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتوّ عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقبح هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل).[١]

والطريق إلى التخلص من هذه العادات يكون بمجاهدة النفس، وقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تعليمها لصحابته الكرام، وتطبيقها في حياته، وفي ذلك تروي السيدة عائشة -رضي الله عنها- حال النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مجاهدة النفس: (أنَّ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقومُ منَ الليلِ حتى تتفَطَّرَ قدَماه، فقالتْ عائشةُ: لِمَ تَصنَعُ هذا يا رسولَ اللهِ، وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم من ذَنْبِك وما تأخَّر؟ قال: (أفلا أُحِبُّ أن أكونَ عبدًا شَكورًا))،[٢] وأكثر ما يُطهر النفس: العلم، والعبادات المُعِينة على الفوز بالجنة، وبذلك تطهر النفس من الذنوب، كما يَطهر البدن بالماء.[١]

من ترك شيئاً لله وثوابه

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لَن تدَع شيئاً للهِ عزَّ وجلَّ إلا بدَلك اللهُ به ما هو خيرٌ لكَ منه)،[٣] في هذا الحديث الشريف، يظهر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّك لن تدع شيئاً)، أن اللفظ المستعمل عامّ، ممّا يدل على دخول جميع الأعمال المتروكة ابتغاء رضا الله تعالى، وفي قوله: (لله عزَّ وجل) دليل على جعل الهدف من الترك رضا الله -تعالى- وليس الخجل من الناس أو غيره من الأسباب الخارجة عن إرادته، وفي جملة: (أبدله الله خيراََ منه) دلالة على العوض الذي يحصل عليه من قام بالشرط، وقد يكون العوض من جنس ما ترك أو من غير جنسه، ولكن عوض الله -تعالى- أفضل من المتروك، كما أنَّ هذا الترك يعود على الإنسان بِخَيْرَي الدُنيا والآخرة، فالله -تعالى- يُضاعف لعباده الحسنات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول اللهُ: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئةً فلا تكتُبوها عليه حتى يعملَها، فإن عملَها فاكتبوها بمثلِها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنةً، وإذا أراد أن يعملَ حسنةً فلم يعملْها فاكتبوها له حسنةً، فإن عملَها فاكتبوها له بعشرِ أمثالِها إلى سبعمائةِ ضِعفٍ).[٤][٥]

وكلما كانت مشقة المتروك كبيرة وتاقت نفس المؤمن إليها، وصبر على الرغم من كثرة الدواعي التي تدعوه إلى فعلها، ضاعف الله -تعالى- له الأجر، ومن الجدير بالذكر أنَّ الله -تعالى- فطر الناس على حبِّ الشهوات والميل إليها، وجعل مقاومتها والمجاهدة للامتناع عنها من الجهاد، ومن الأمور التي يعوض الله تعالى تاركها خيراً ما يأتي:[٦]

  • من ترك سؤال الناس وعلَّق أمله بالله تعالى، أكرمه الله بعزة النفس والاستغناء به عن جميع خلقه.
  • من ترك الاعتراض على أقدار الله -تعالى- له وتوكل على الله سبحانه، أعطاه الله اليقين والرضا.
  • من آثَر في حياته الصدق على الكذب، هداه الله -تعالى- إلى الصدق، وكتبه من الصديقين.
  • من ترك الغش في البيع، زادت ثقة الناس به، ووسَّع الله -تعالى- له في رزقه.
  • من ترك النظر إلى المحرمات، أكرمه الله -تعالى- بنور في الوجه وحلاوة في القلب.
  • من ترك الكِبَر ولزم التواضع، رفعه الله -تعالى- في الدنيا والآخرة، وأنعم عليه بحب الناس.
  • من ترك أصحاب السوء، عوَّضه الله -تعالى- بالصحبة الصالحة التي تأخذ بيده إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
  • من ترك الخوض في أعراض الناس، أكرمه الله -تعالى- بقوة البصيرة، والسلامة من أذى الناس.

نماذج لأمور من تركها لله عوّضه الله خيراً منها

جاءت قصة يوسف -عليه السلام- في سورة كاملة من سور القرآن؛ لما فيها من الفوائد، فهي تُجسِّد في تفاصيلها معنى العوض الجميل، فقد صبَر يوسف -عليه السلام- أمام فتنة امرأة العزيز التي جمعت بين المنصب والجمال، وهو البعيد عن دياره وأهله، فما كان منه إلا أن آثر العفة على الفاحشة، وحماه الله -تعالى- من كيدها وعوَّضه بالتمكين في الأرض، واستحق بفعله هذا أن يكون في مقدمة من يستظل بظل الرحمن، مصداقاً لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث ذكر أن هذه الفئة منهم، وذلك في قوله: (ورجلٌ دَعَتْهُ امرأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمالٍ فقال: إنِّي أَخَافُ اللهَ ربَّ العالمينَ)،[٧][٨] ويَروي أبو عبد الله أحمد بن جعفر المعروف بالبرقي أنّ امرأة في البادية أتلف البرد زرعها، فجاءها الناس يُعَزّونها، فنظرت إلى السماء وألَحّت على الله -تعالى- بالدعاء؛ لعلمها أنَّ العوض بيد الله، والآمال كلها تتوجه إليه، فهو -سبحانه- يفعل ما يشاء، فأقبل إليها رجل من مياسير القوم، فأعطاها خمسمئة دينار.[٩]

ومن الأمثلة التي تُظهر عظيم عوض الله -تعالى- على النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام الهجرة إلى المدينة المنورة وترك الديار والأموال في سبيل الله تعالى، فكان عوض الله -تعالى- عليهم بأن جعلهم قادة الأُمم، وفتح على أيديهم خزائن قيصر وكِسرى، ومَكَّنهم من كل طاغية جَبّار، مع ما أعدَّه لهم من النعيم في جنان الخُلد، فقد كانوا مثالاََ يُحتذى به في التواضع والعدل وجميل الأخلاق والصفات، فعندما خرج الصحابي صُهَيب الرومي -رضي الله عنه- مُهاجراً، تَبِعه كفار مكة، فأخرج صهيب ما كان معه من سهام وتوَعّدَهم إن اقتربوا منه أن يَقتلهم بسهامه، فإن انتهت السهام قاتلهم بسيفه، فنزل قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).[١٠][٥]

المراجع

  1. ^ أ ب أحمد رشيد (28-5-2014)، “مجاهدة النفس”، ar.islamway.net، اطّلع عليه بتاريخ 1-1-2019. بتصرّف.
  2. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم: 4837، صحيح.
  3. رواه الهيثمي، في مجمع الزوائد، عن أبي قتادة وأبي الدهماء، الصفحة أو الرقم: 10/299، [روي] بأسانيد ورجالها رجال الصحيح‏‏ .
  4. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة ، الصفحة أو الرقم: 7501 ، صحيح.
  5. ^ أ ب د. أمين الشقاوي (1-4-2008)، “من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه”، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 1-1-2018. بتصرّف.
  6. محمد الحمد (22-4-2005)، “من ترك شيئاَ لله عوضه الله خيراً منه “، ar.islamway.net، اطّلع عليه بتاريخ 1-1-2019. بتصرّف.
  7. رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 3603، صحيح.
  8. إبراهيم الحازمي، “من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه (1)”، saaid.net، اطّلع عليه بتاريخ 2-1-2018. بتصرّف.
  9. إبراهيم الحازمي، “من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه (2)”، saaid.net، اطّلع عليه بتاريخ 2-1-2018. بتصرّف.
  10. سورة البقرة، آية: 207.