حقوق الزوجة بعد الطلاق
حقوق الزوجة بعد الطلاق
اهتمّت الشريعة الإسلاميّة بحقوق المرأة، وأوْلَتها عناية خاصة نظراً لدورها الكبير في الأسرة والمجتمع، كما كفلت أيضاً حقوق الرجل، ولذلك وجب على كلّ طرفٍ منهما معرفة ما عليه من واجباتٍ تجاه الآخر، وما له من حقوقٍ، والطرق والوسائل التي تُحقّق الرضا عند كليهما، علماً أنّه قد تقع الخلافات بينهما؛ بسبب التقصير في أداء الواجبات، وتصل بهما الحال إلى التفريق والطلاق، وبالتفريق بينهما تترتّب عدّة حقوقٍ تحفظ كلا الطرفَين من لحوق أي ضررٍ بهما.[١]
حقّ الزوجة في الصَّداق
الصَّداق في اللغة يعني: الصدق، وهو بذلك يخالف الكذب، أمّا في الاصطلاح الشرعيّ، فهو: المال الواجب من الزوج تجاه زوجته بموجب عقد النكاح الذي تمّ بينهما، وسُمِّي بالصَّداق؛ لأنّه يدلّ على صدق رغبة الزوج تجاه من يريد الارتباط بها، ويُطلَق عليه أيضاً: المهر، والنِّحْلة، والعُقْر، وتشريع الصدّاق يؤكّد على منزلة المرأة وعلوّ مكانتها، ويحفظ لها كرامتها، كما يشكّل عوناً لها في الاستعداد للزواج، وتُؤمّن كلّ ما تحتاجه من الأمور، وتسدّ النفقات التي عليها، وتجدر الإشارة إلى أنّ الصَّداق من حقّ المرأة، ولا يحقّ لأحدٍ أن يأخذه، أو يأخذ منه شيئاً، بينما يجوز لأوليائها قَبضه فقط، وفي ذلك يقول الله -تعالى-: (فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)،[٢] وقد ثبتت مشروعيّته في عدّة أدلّةٍ من القرآن، والسنّة، والإجماع، وفيما يأتي ذكرها:[٣]
- القرآن الكريم: ذُكِر الصَّداق في عدّة آياتٍ، منها:
- السنّة النبويّة: روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- فقال: (أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ رأى عبدَ الرَّحمنِ بنَ عوفٍ وعليْهِ رِدعُ زعفرانٍ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ مَهيِم فقالَ يا رسولَ اللَّهِ تزوَّجتُ امرأةً قالَ ما أصدقتَها قالَ وَزنَ نواةٍ من ذَهبٍ قالَ أولِم ولو بشاةٍ).[٧]
- الإجماع: أجمع أهل العلم على مشروعيّة الصَّداق في النكاح.
الصَّداق المُعجَّل
الصَّداق، أو المهر المُعجّل هو: المهر الذي يُؤدّيه الزوج كاملاً قبل الدخول، أو قبل التفريق بين الزوجين بالطلاق، أو الموت، وقد اتّفق العلماء على استحباب تعجيل المَّهْر؛ إذ حثّت الشريعة الإسلاميّة المسلم على أداء ما عليه من حقوقٍ للآخرين دون تأخيرٍ، أو مماطلةٍ بلا عذرٍ، إلّا أنّهم اختلفوا في حُكم عدم تقديم أيّ مبلغٍ من المَهْر قبل الدخول، وذهبوا في ذلك إلى قولَين، بيانهما فيما يأتي:[٨]
- القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم إلى أنّ تقديم شيء من المهر قبل الدخول محمولٌ على الاستحباب، يقول الإمام الزهري: مضت السّنة أنْ لا يدخل بها حتى يعطيها شيئاً، واستندوا في ذلك إلى عدّة روايات، منها حديث عقبة بن عامر: (أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ زوَّجَ رجلًا امرأةً برضاهما؛ فدخل بها الرجلُ ولم يفرض لها صداقًا ولم يُعطها شيئًا، وكان ممن شهد الحديبيةَ، وكان من شهدها له سهمٌ بخيبرَ، فحضرتْهُ الوفاةُ؛ فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ زوَّجني فلانةَ ولم أفرض لها صداقًا ولم أُعطها شيئًا، ولكني أُشهدكم أنِّي أعطيتُها من صداقها سهمي بخيبرَ، قال: فأخذتْهُ فباعتْهُ بمائةِ ألفٍ)،[٩] ودلالة الحديث جليّة في عدم وجوب تقديم شيء من المهر قبل الدخول.
- القول الثاني: القول بوجوب تقديم شيء من المهر قبل الدخول، وبه قال بعض الصحابة، وهو قولٌ عند المالكية، ومستندهم في ذلك ما رواه الإمام البخاري عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (التَمِسْ ولو خَاتَمًا مِن حَدِيدٍ).[١٠]
الصَّداق المُؤخّر
يُراد بتأخير الصَّداق في الاصطلاح الشرعيّ: ألّا يؤدّي الزوج المهر، أو شيئاً منه، ويُؤخّره مدّة ما، وهذه المسألة تعدّدت فيها آراء أهل العلم، وخُلاصة أقوالهم فيما يأتي:[١١]
- القول الأول: قال الإمام أبو حنفية، وابن حزم الظاهري ببطلان المهر المُؤخَّر؛ ذلك أنّه مجهول الوقوع، ولا بُدّ أن يكون المهر مُعجَّلاً؛ استدلالاً بقول الله -تعالى-: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)،[١٢] ذلك أنّ الله -سبحانه- أمر بإيتاء الزوجة مهرها، وتأخيره يخالف أمر الله.
- القول الثاني: قال الإمامان؛ الشافعي، ومالك بفساد تأخير المهر، ووجوب أداء مهر المثل للزوجة؛ ذلك أنّ العِوض مجهول المدّة، فيُحكَم عليه بالمثل.
- القول الثالث: يجوز تأخير المهر إلى مدّة محدّدة، وهو قول عند المالكية، وقال به مكحول والأوزاعي، وتعدّدت آرائهم في تحديد المدّة، لكنّ جماعة من أهل العلم قالوا: ما قصُر من الأجل فهو أفضل.
- القول الرابع: قال الحنابلة بلزوم المهر المُؤخّر، وإن لم تُحدَّد مدّةٌ له، وتتمّ المطالبة به بالموت، أو التفريق بين الزوجين، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيّم -رحمهما الله-؛ استدلالاً بقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (المسلمونَ على شروطِهمْ إلَّا شرطًا حرَّمَ حلالَا أوْ أحلَّ حرامًا)،[١٣] وتأخير المهر لا يتضمّن تحريم حلالٍ، أو تحليل حرامٍ، وبذلك يصحّ اشتراط تأخير المهر.
حقّ المُطلّقة في النفقة
الطلاق إمّا أن يكون رجعّياً، أو بائناً، ولكلّ نوعٍ منهما حكم مُتعلّق بالنفقة، وبيان ذلك فيما يأتي:[١٤]
نفقة المُطلّقة طلاقاً رجعيّاً
اتّفق الفقهاء على وجوب نفقة المُطلّقة طلاقاً رجعيّاً على الزوج خلال أيّام عدّتها فقط، وتشمل نفقتها الطعام، والشراب، والمسكن، والملبس؛ سواءً كانت الزوجة حاملاً، أم لا؛ استدلالاً بعدّة آياتٍ قرآنيةٍ دلّت على ذلك، وفيما يأتي بيانها:[١٤][١٥]
- قول الله -تعالى-: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ)،[١٦] فقد أمر الله ببقاء الزوجة في بيت زوجها خلال فترة العدّة، ممّا يعني أنّ نفقتها واجبة على الزوج؛ إذ إنّها محبوسةٌ لأداء حقّ الزوج، فوجبت عليه نفقتها.
- قول الله -سبحانه-: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا)،[١٧] فدلّت الآية على أنّ المُطلّقة رجعيّاً تُعدّ زوجةً، إذ أُطلِق على الرجعة لفظ الإمساك، وعلى الزوج المُطلّق لفظ الزوج.
- عموم النصوص القرآنيّة الدالّة على وجوب نفقة الزوجة على الزوج، ومنها: قول الله -تعالى-: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ).[١٨]
نفقة المُطلّقة طلاقاً بائناً
البائن الحامل
اتّفق الفقهاء على ثبوت حقّ النفقة والسُّكنى للمطلّقة طلاقاً بائناً إن كانت حاملاً؛ استدلالاً بعدّة أدلّةٍ، منها:[١٤]
- قول الله -عزّ وجلّ-: (وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)،[١٩] والآية تدلّ دلالة صريحةً على وجوب الإنفاق على المُطلّقة الحامل إلى أن تضع حملها.
- قول الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- لفاطمة بنت قيس بعدما طلّقها زوجها طلاقاً بائناً: (وَاللَّهِ ما لَكِ نَفَقَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا).[٢٠]
- اعتبار الولد للمُطلِّق؛ فوجب عليه الإنفاق على ولده، ويكون الإنفاق عليه بالإنفاق على أمّه،واستندوا في ذلك إلى القاعدة الأصولية: ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب”.
- تأثير الطلاق البائن في سقوط نفقة الزوجة، لا بنفقة الحمل والولد، ولا تتحقّق نفقة الحمل إلّا بالنفقة على الأمّ.
البائن غير الحامل
إن لأهل العلم في حكم النفقة على المُطلّقة طلاقاً بائناً إن لم تكن حاملاً تفصيلاً، وخُلاصة القول في المسألة ما يأتي:[١٤]
- القول الأول: قال الحنفيّة بوجوب النفقة والسُّكنى لها، واستدلّوا بقول الله -تعالى-: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ)،[٢١] ويُستدَلّ من الآية على وجوب النفقة على المُطلّقة مُطلَقاً، كما قال أيضاً: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ)،[٢٢] فالله -سبحانه- نهى المُطلّقات عن الخروج من بيوتهنّ، ولا فرق في ذلك بين المُطلّقة طلاقاً رجعيّاً، أو بائناً.
- القول الثاني: قال المالكيّة، والشافعيّة بأنّ للمطلّقة بائناً غير الحامل الحقّ في السُّكنى دون النفقة، واستدلّوا على رأيهم بأنّ الآيات المذكورة سابقاً تدلّ -في رأيهم- على وجوب السكن للمُطلّقة مُطلقاً، أمّا النفقة فلا تجب إلّا للحامل، واستدلّوا أيضاً بقول الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- لفاطمة بنت قيس بعدما طلّقها زوجها طلاقاً بائناً: (وَاللَّهِ ما لَكِ نَفَقَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا)،[٢٠] فالحديث ينفي صراحةً حقّ النفقة للمُطلّقة غير الحامل دون السكن، وقالوا بأنّ العلاقة بين الزوجين انتهت بالطلاق البائن، فلا بدّ من سقوط النفقة بزوال العلاقة، والنفقة تجب للزوجة مقابل تمكين نفسها من زوجها، واستمتاعه بها، فإن زال التمكين والاستمتاع، سقطت النفقة.
- القول الثالث: قال الحنابلة، والظاهريّة بأنّ المطلّقة طلاقاً بائناً لا تجب لها النفقة، أو السُّكنى إن لم تكن حاملاً، وقالوا بأنّ الآيات السابقة تتعلّق بالطلاق الرجعيّ، وليس البائن، كما استدلّوا بما ثبت في صحيح مسلم عن فاطمة بنت قيس أنّها قالت: (طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا، فَلَمْ يَجْعَلْ لي رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةً).[٢٣]
مقدار نفقة المُطلّقة
اتّفق الفقهاء على أنّ للزوجة نفقة المُوسرين إن كان الزوجان كذلك، ولها نفقة المُعسرين إن تعسّرت حالهما، إلّا أنّهم اختلفوا؛ إن كان أحد الزوجين مُوسِراً، والآخر مُعسِراً، وبيان أقوالهم فيما يأتي:[٢٤]
- القول الأول: قال الحنفيّة، والشافعيّة؛ بأنّ المُعتبَر حال الزوج؛ يساراً، أو إعساراً، واستدلّوا بقول الله -تعالى-: (وعلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)،[٢٥] فقد أوجب الله -تعالى- على الزوج النفقة على الزوجة بالمعروف؛ أي بما تعارف عليه الناس، فيُنفق الزوج بحسب حاله، واستدلّوا أيضاً بقول الله -تعالى-: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّـهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)،[٢٦] فالخطاب مُوجَّهٌ للزوج، ممّا يعني أنّ المُعتبَر حاله باليسار والإعسار في النفقة.
- القول الثاني: قال بعض الحنفيّة بأنّ المُعتبر حال الزوجة، وقالوا بأنّ الكسوة والرزق يرجعان في الذِّكر إلى الوالدات في الآية السابقة، ممّا يدلّ على أنّ حالهنّ هو المُعتبَر في تقدير النفقة، كما استدلّوا بقول النبي -صلّى الله عليه وسلّم- لهند بنت عُتبة: (خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروفِ)،[٢٧] فقد أسند النبيّ الكفاية إلى الزوجة، ممّا يعني أنّ حالها هو المُعتبَر في النفقة.
- القول الثالث: قال المالكيّة، والحنابلة، وبعض الحنفيّة بأنّ المُعتبَر حال الزوجين معاً، وإن اختلفت حالهما؛ فالنفقة تُقدَّر بحال المُتوسّطين؛ جمعاً بين أدلّة الفريقين السابقين؛ فالآية اعتبرت حال الزوج، والحديث اعتبر حال الزوجة، فكان الجمع بينهما أولى من اعتبار أحدهما.
حقّ الزوجة في المسكن
يجب على الزوج تأمين السكن للزوجة، حتى وإن كانت مُعتَدّةً، ودليل ذلك قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّـهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ)،[١٦] والبيت المذكور في الآية السابقة هو البيت الذي تسكنه الزوجة وقت الفراق بينها وبين زوجها؛ سواءً أكانت الفُرقة بالطلاق، أم بالوفاة، وأجاز الحنفيّة بقاء المطلّقة طلاقاً رجعيّاً في بيتٍ واحدٍ مع زوجها، ولزوجها الاستمتاع بها بعد الطلاق؛ قاصداً بذلك مُراجعتها؛ أي أنّ استمتاعه بها بمثابة الرجعة، أمّا إن كان الطلاق مُكمّلاً للثلاث، أو كان طلاقاً بائناً، فلا يجوز للمُطلّق الإقامة مع مطلّقته، وتبقى المُطلّقة في البيت، بدليل قوله -تعالى-: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ)،[١٦] وقال الحنفيّة بوجود أعذارٍ مُبيحةٍ لخروج المطلّقة من بيتها، وقضاء فترة العدّة خارجه، كضيق المنزل.[٢٨]
حقّ الزوجة في أجرة الرِّضاع
يُعَرَّف الرِّضاع في الشرع بأنّه: مَصّ الرضيع الذي لم يبلغ العامَين اللبن من ثدي آدميةٍ، ووصوله إلى جوفه، على أن يكون الحليب قد نشأ عن حملٍ، وقد ثبتت مشروعيّة الرِّضاعة بقول الله -تعالى-: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)،[٢٩] واتّفق الفقهاء على استحقاق المُطلّقة الأجر على رِضاع ولدها مدّة عامين كاملين؛ سواءً أكان الطلاق بائناً، أم رجعيّاً.[٣٠]
إجبار المُطلّقة على الرِّضاع
يتفرّع حكم إجبار المطلّقة على الرِّضاع إلى حُكمَين؛ بالنظر إلى نوع الطلاق، وبيانهما فيما يأتي:[٣١]
- الحكم الأول: ذهب جمهور أهل العلم إلى منع إجبار المطلّقة طلاقاً رجعيّاً على الرِّضاع، ولها الحرّية فيما تختار، في حين قال المالكيّة بإجبار المطلّقة رجعيّاً على الرِّضاع، إلّا إذا كانت الأم ذات مكانةٍ رفيعةٍ في قومها، أو مُصابةٍ بمرضٍ ما.
- الحكم الثاني: حكم إجبار المطلقة طلاقاً بائناً؛ فقد اتّفق الفقهاء على عدم جواز إجبارها على الرِّضاع.
استحقاق المطلّقة أجرة الرِّضاع
اختلفت آراء العلماء في بيان حكم استحقاق المطلّقة أجرة الرِّضاع؛ بالنظر إلى نوع الطلاق، وبيان ذلك على النحو الآتي:
- المطلّقة طلاقاً رجعيّاً: تفرّعت آراء العلماء في منح المطلّقة طلاقاً رجعيّاً أجرةً على الرِّضاع إلى ثلاثة أقوالٍ، بيانها فيما يأتي:[٣٢]
- الرأي الأول: قال الحنفيّة بعدم استحقاقها الأجرة إن أرضعت ولدها في العامين.
- الرأي الثاني: فرّق المالكيّة في حال المرأة؛ فلا تستحقّ أجرة الرِّضاع إن كنّ مثيلاتها يُرضعن، وتستحقّ إن كنّ لا يُرضعن.
- الرأي الثالث: قال الشافعيّة، والحنابلة باستحقاق المرأة المعتدّة من طلاقٍ رجعيٍ أجرةً على إرضاع صغيرها، ولم يستثنوا أي حالةٍ من الحكم.
- المطلّقة طلاقاً بائناً: قال العلماء بأنّ المطلّقة طلاقاً بائناً تستحقّ أجرةً على الرِّضاع، ذلك إن شاءت الرِّضاع، ولم تُجبر عليه.[٣٢]
استحقاق المطلّقة أجرة الرِّضاع بعد انتهاء العدّة
اتّفق الفقهاء على استحقاق المطلقة أجرةً عن إرضاع ولدها بعد انتهاء عدّتها، واستدلّوا بعموم قول الله -تعالى-: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)،[٣٣] كما أنّ النكاح ينتهي بالكلّية بعد انتهاء العدّة، فتصبح المُرضعة أجنبيّةً عن والد الولد، والأجنبيّة تستحقّ أجرةً على الرِّضاعة، والأم أولى برضاعة ولدها من الأجنبيّة؛ لشَفَقَتِها، وحنانها عليه.[٣٤]
سقوط حقّ المطلّقة في إرضاع ولدها
تناول الفقهاء مسألة استحقاق الأم المطلّقة للإرضاع والحالات التي تُسقِط حقّها فيه، وبيان ذلك فيما يأتي:[٣٥]
- تبرُّع الأم بإرضاع ولدها: الأم أحقّ بارضاع ولدها إن تبرّعت بذلك، ولم تطلب الأجر، ولا يحقّ للأب منعها من الرضاعة؛ استدلالاً بقول الله -تعالى-: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا)،[٣٦] كما أنّ منع الأم من إِرضاع ابنها تترتّب عليه العديد من الآثار السيّئة؛ إذ تعود الرِّضاعة على الأمّ والابن بالعديد من الفضائل؛ فهي أشفق من غيرها على ابنها، ولَبنها أفضل من غيره للولد.
- إرضاع الأم للولد بأجرة المثل: اتّفق الفقهاء على أنّ الأم أحقّ من غيرها في إرضاع طفلها إن طلبت الأجرة على ذلك، كما إن طلبت غيرها من المُرضعات، ولم تُوجَد أيّ مرضعةٍ تبرّعت بالرِّضاعة، أو وُجِدت من تُرضعه بأجرة المثل.
- إرضاع الأم للولد بأجرة المثل مع وجود مُتبرّعةٍ أو مُرضعةٍ بأقلّ من المثل: ذهب المالكية والحنابلة إلى أنّ للأم حقّ الإرضاع، وهي رغم ذلك أولى من غيرها، ويُجبر الأب على دفع أجر المثل للأم، في حين ذهب الشافعيّة والحنفيّة إلى القول بسقوط حقّ الأم بالإرضاع إن طلبت أجرة المثل في حال وُجِد مُتبرّعة أو مُرضعة بأقلّ من أجرة المثل.
- إرضاع الأم للولد بأكثر من أجرة المثل: اتّفق الفقهاء على سقوط حقّ الأم بالإرضاع، ولو كانت الزيادة يسيرةً، وذلك إن وُجدت مُرضعةٌ بأجرة المثل.
حقّ الزوجة في الحضانة
تعريف الحضانة
تُعرّف الحضانة في اللغة بأنّها: الحفظ، والصيانة، والرعاية، وتُعرّف في المذاهب الفقهيّة كما يأتي:[٣٧]
- الشافعيّة: تربية من لا قدرة له على الاستقلال بأموره، والقيام عليها بما يُصلحه، ووقايته عمّا قد يلحق به من الأذى، ولو كان كبيراً لا يعقل.
- الحنفيّة: تربية الولد ممّن يثبت له حقّ الحضانة.
- المالكيّة: الاهتمام بالولد وحفظه، من حيث المبيت، والطعام، واللباس، والصّحة.
- الحنابلة: حفظ الصغير، أو المجنون، أو المعتوه من الضرر، والاهتمام بمصالحهم، وتربيتهم، ورعاية شؤونهم.
مشروعيّة الحضانة للأم والحِكمة منها
ثبتت مشروعيّة الحضانة للأم في القرآن الكريم، والسنّة النبويّة، وإجماع العلماء، والمعقول، وبيان الأدلّة فيما يأتي:[٣٨]
- من القرآن: قول الله -تعالى-: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)،[٣٩] فالآية دلّت على أنّ الأم أحقّ بصيانة ولدها وحفظه إلى أن يستغني عنها بنفسه.
- من السنّة: قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: (أنَّ امرأةً قالت يا رسولَ اللهِ إنَّ ابني هذا كان بطني له وِعاءً وثديي له سقاءً وحِجري له حِواءً وإنَّ أباه طلَّقَني وأراد أن ينتزعَه منِّي فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنتِ أحقُّ به ما لم تَنكِحي).[٤٠]
- من الإجماع: اشتُهِر بين الصحابة -رضي الله عنهم- ثبوت الحضانة للأم دون إنكارٍ، فكان إجماعاً منهم.
- من المعقول: أنّ الأمّ أحنّ وأشفق على ولدها من أبيه؛ فكانت أحقّ وأولى في حضانته.
وقد شُرِعت الحضانة للطفل؛ لضعفه، وعجزه عن القيام بأموره، والاعتناء بنفسه، وتحقيق مصالحه؛ لذلك كانت الولاية على أموره من غيره؛ إذ إنّ حفظ النفس من أهم مقاصد الشريعة الإسلاميّة.[٣٨]
حقّ الأم في نفقة الحضانة
تعدّدت آراء الفقهاء في حُكم استحقاق الأم أجرةً على حضانة ولدها؛ بالنظر إلى عدّة اعتباراتٍ، وذهبوا في ذلك إلى ثلاثة أقوالٍ، بيانها فيما يأتي:[٤١]
- القول الأول: قال الحنفيّة بعدم استحقاق الزوجة أجرةً على حضانة ولدها خلال فترة العدّة؛ سواءً من طلاقٍ رجعيٍ، أو بائنٍ؛ إذ إنّها تستحقّ النفقة خلال تلك المدّة، أمّا بعد انتهاء العدّة فتستحقّ أجرة الحضانة.
- القول الثاني: قال المالكيّة بعدم استحقاق الأم أجراً على حضانة ولدها؛ بالنظر إلى أنّ الحضانة حقٌّ ثابتٌ لها، ولا تُجبر عليه؛ إذ إنّ الإنسان لا ينال الأجر على ما وَجَبَ عليه.
- القول الثالث: قال الشافعيّة، والحنابلة باستحقاق الأم أُجرةً على حضانة ولدها؛ سواءً كانت في عدّة الطلاق الرجعيّ، أو البائن، أو بعد انتهاء العدة؛ قياساً على استحقاقها أجرةً على الرِّضاع، واشترط الشافعيّة ألّا تطلب أكثر من أجرة المثل، وإن وُجدت مُتبرّعةٌ، أو حاضنةٌ بأقلّ من المثل، فلا يحقّ للأمّ أن تطلب المثل، وقال الحنابلة بأنّ للأم أن تطلب أُجرة المثل، حتى وإن وُجِدت مُتبرعةٌ، ولا تُجاب إن طلبت أكثر من المثل.
للمزيد من التفاصيل عن الطلاق وأنواعه الاطّلاع على المقالات الآتية:
- ((تعريف الطلاق وأنواعه)).
- ((أنواع الطلاق)).
- ((شروط طلاق الزوجة)).
- ((كيفية إرجاع الزوجة بعد الطلاق)).
المراجع
- ↑ محمود عبد العزيز يوسف (2/10/2016)، “حقوق المرأة المطلقة في الشريعة الإسلامية”، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 13/1/2020. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية: 20.
- ↑ مجموعة من المؤلفين، الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة، المدينة المنورة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، صفحة 40. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية: 24.
- ↑ سورة النساء، آية: 4.
- ↑ سورة البقرة، آية: 236.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح أبي داود، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 2109، صحيح.
- ↑ نور الدين أبو لحية، الحقوق المادية للزوجة (الطبعة الأولى)، القاهرة: دار الكتاب الحديث، صفحة 85. بتصرّف.
- ↑ رواه ابن حزم، في المحلى، عن عقبة بن عامر، الصفحة أو الرقم: 9/489، حتج به ، وقال في المقدمة: (لم نحتج إلا بخبر صحيح من رواية الثقات مسند).
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن سهل بن سعد الساعدي، الصفحة أو الرقم: 5135، صحيح.
- ↑ نور الدين أبو لحية، الحقوق المادية للزواج (الطبعة الأولى)، القاهرة: دار الكتب الحديث، صفحة 89. بتصرّف.
- ↑ سورة النساء، آية: 4.
- ↑ رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن عمرو بن عوف المزني، الصفحة أو الرقم: 1352، حسن صحيح.
- ^ أ ب ت ث سلمى بنت محمد هوساوي (2015)، “الأحكام المتعلقة بنفقة الزوجة والمطلقة”، مجلة كلية اللغة العربية، العدد الخامس والثلاثين، صفحة 656-682. بتصرّف.
- ↑ ابن قدامة المقدسي (1995 م)، الشرح الكبير (الطبعة الأولى)، القاهرة: دار هجر، صفحة 308، جزء 24. بتصرّف.
- ^ أ ب ت سورة الطلاق، آية: 1.
- ↑ سورة البقرة، آية: 228.
- ↑ سورة الطلاق، آية: 6.
- ↑ سورة الطلاق، آية: 6.
- ^ أ ب رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عُبيد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم: 1480، صحيح.
- ↑ سورة الطلاق، آية: 6.
- ↑ سورة الطلاق، آية: 1.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن فاطمة بنت قيس، الصفحة أو الرقم: 1480، صحيح.
- ↑ د. سلمى بنت محمد هوساوي (2015م)، “الأحكام المتعلقة بنققة الزوجة والمطلقة”، مجلة كلية اللغة العربية، العدد الخامس والثلاثين، صفحة 643-646. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية: 233.
- ↑ سورة الطلاق، آية: 7.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم: 5364، صحيح.
- ↑ أ. د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ، الفقه الاسلامي وأدلته (الطبعة الرابعة)، دمشق: دار الفكر، صفحة 7201-7203، جزء 9. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة آية: 233.
- ↑ وفاء معتوق قراش (1985)، آثار الطلاق المعنوية والمالية في الفقه الاسلامي-رسالة ماجستير، صفحة 381-390. بتصرّف.
- ↑ وفاء معتوق (1985)، آثار الطلاق المعنوية والمادية، صفحة 393-397. بتصرّف.
- ^ أ ب وفاء معتوق، اثار الطلاق المعنوية والمادية في الفقه الاسلامي، صفحة 398-407. بتصرّف.
- ↑ سورة الطلاق، آية: 6.
- ↑ وفاء معتوق (1985)، آثار الطلاق المعنوية والمادية في الفقه الإسلامي، صفحة 408. بتصرّف.
- ↑ وفاء معتوق (1985)، آثار الطلاق المعنوية والمادية في الفقه الإسلامي، صفحة 411-418. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية: 233.
- ↑ وفاء معتوق (1985)، آثار الطلاق المعنوية والمادية في الفقه الإسلامي، صفحة 420-422. بتصرّف.
- ^ أ ب وفاء معتوق (1985)، آثار الطلاق المعنوية والمادية في الفقه الإسلامي ، صفحة 423-427. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية: 233.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح أبي داود، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم: 2276، حسن.
- ↑ وفاء معتوق، آثار الطلاق المعنوية والمادية في الفقه الإسلامي، صفحة 465-466، بتصرف.