تعريف تحديد النسل

تحديد النسل

لم تخل المجالس الفكرية والدينية أو الجلسات الشعبية من الجدل الكبير الذي يتمحور حول موضوع تحديد النسل، حيث تحكم المجتمعات العديد من النظم والاتجاهات الفكرية التي تؤثر وبشكل كبير جداً على آراء أبناء هذه المجتمعات وتجعلهم تابعين لفئة معينة من الناس بأسماء كثيرة لا مجال للتفصيل فيها أو سبر أغوارها والوصول إلى منابعها الآن. إلّا أنه من الواضح أن هناك فريقين من الناس فالبعض يرى أن تحديد النسل هو أمر منفصل تماماً عن تنظيم النسل، فيما يرى البعض الآخر أنهما يؤديان نفس المعنى، فالقسم الأول يرى أن تحديد النسل يعني منع الحمل نهائياً وتحديده بعدد معين من مرات الإنجاب، فيما يعني تنظيم النسل – بحسب وجهة نظرهم – عدم منع إنجاب الأطفال منعاً نهائياً ولكن تنظيم عملية الإنجاب والإنجاب بفترات متباعدة. أما القسم الآخر فيرى أن التنظيم والمنع كلاهما واحد وهما يفيدان إما منع عملية الحمل والإنجاب منعاً نهائياً أو تنظيم عملية الإنجاب بحيث يتم الفصل بفترة زمنية جيدة بين الأطفال. ولكن الأمر الذي لا جدال فيه هو أنه وبغض النظر عن معمعة التسميات ومتاهتها فإن الأمر الذي لا جدال فيه هو وجود الوسائل التي يمكنها أن تمنع الحمل وأيضاً وجود الوسائل التي تنظم عملية الحمل ومن ثم عملية الإنجاب.

طرق تحديد النسل

تتنوع طرق تحديد النسل إما بالمنع أو بالتنظيم، فلتنظيم النسل هناك العديد من الوسائل التي يمكن بواسطتها أن تتم عملية المباعدة بين الأحمال، فقد يلجأ الأبوان حتى ينظموا عملية التناسل والإنجاب إلى العديد من الوسائل والتي من أبرزها وسيلة العزل أثناء ممارسة العملية الجنسية أو الامتناع عن ممارسة العملية الجنسية ومن الطرق أيضاً استعمال الواقي الذكري في أثناء الممارسة الجنسية أو استعمال طرق أخرى مثل اللولب وحبوب منع الحمل، أما لمنع الحمل وبشكل نهائي فقد تلجأ المرأة إلى وسيلة ربط قناة فالوب، فالربط يمنع وبشكل نهائي عملية الحمل، بحيث تحد هذه الطريقة من التقاء البويضات التي ينتجها جسم المرأة بالحيوانات المنوية والتي تأتي من الرجل، مما يؤدي وبعد فترة إلى تحلل البويضة في جسد المرأة ومن ثم امتصاصها من قبل جسمها. وهذه الوسيلة تلاقي المعارضة الأكبر من بين كافة الوسائل الأخرى، نظراً لأنها تمنع الحمل بشكل نهائي.

تاريخ مصطلح تحديد النسل

تنوّعت آراء الناس على اختلاف مللهم واتجاهاتهم الفكرية ما بين تحريم وربما تجريم اللجوء إلى مثل هذه الوسائل، لدرجة تم فيها تجريم كل كاتب يتجرأ ويكتب في مثل هذه المواضيع كما حصل في فرنسا في العام 1920 ميلادية.

تاريخياً بدأ تداول هذا المصطلح في العام 1914 ميلادية، عن طريق مارجريت سانجر والتي قامت بنشر نشرات ساعدت على تشجيع الناس على اتباع وسائل تحديد النسل ومنع الحمل، وقد رفعت هذه الناشطة شعاراً ” لا آلهة ولا أسياد “، ولكن الانتشار الحقيقي والواسع لاستخدام مثل هذه الوسائل كان في ستينيات القرن الماضي، حيث تم تطوير العديد من الوسائل التي يمكنها أن تمنع الحمل وتنظمه.

رأي الديانات بتحديد النسل

قابل أتباع الأديان اتباع هذا السلوك واستخدام مثل هذه الوسائل بالرفض في غالب الأوقات، فمثلاً رفض أتباع الكنيسة الكاثوليكية وأتباع الشريعة المحمدية هذه الوسائل أو اللجوء إليها في الأحوال الطبيعية إلا إن كانت هناك دوافع حقيقية أو أسباب خطيرة ووجيهة تستدعي اللجوء إلى مثل هذه الوسائل فعلماء المسلمين تحديداً قالواً أن التحديد هو المنع النهائي وهذا مرفوض في حين قالوا أن التنظيم هو الفصل بين الأحمال وهو جائز إن كان لأسباب ضرورية كما ذكرنا، أما أتباع المذهب البروتستانتي فقد كانوا متساهلين إلى حد ما في بعض الأحيان ورافضين لها في أحايين أخرى كثيرة، وهناك أتباع ديانات أخرى رفضت تماماً هذه الوسائل فيما تساهل بعض أتباع الديانات الأخرى في هذا الموضوع، ولكن المتساهلين أكدوا على ضرورة عدم المساس بحياة الجنين بعد ثبوت الحمل والتأكد منه عن طريق الإجهاض مثلاً، فهذا فيه امتهان للحياة الإنسانية وهو عمل غير أخلاقي.

انطلق أتباع الديانات في رفضهم لهذه الوسائل من منطلقين أساسيين جمعهم جميعاً، الأول أن تحديد النسل فيه إهانة لحياة الإنسان، فقد أكدوا على ضرورة أن تبقى العملية الجنسية بين الرجل والمرأة مدخلاً وبوابةً لاستمرار الحياة على وجه الأرض، في حين كان منطلقهم الثاني أن هذه الأديان تحتاج للبقاء نسلاً كثيراً، ومن هنا فقد واظب أتباع الديانات على تنبيه الناس وتحذيرهم من استخدام مثل هذه الوسائل.

إن أخذنا أتباع الديانة الإسلامية كحالة منفردة، نجد أنهم وبالإضافة إلى الأسباب سابقة الذكر، فقد انفردوا بأسباب أخرى من أبرزها أن تنظيم النسل أو تحديده قد يكون بسبب الخوف من الرزق وهذا سبب لهم أرقاً كبيراً جعلهم يفرقون بين تحديد النسل خوفاً على الرزق وبين تنظيم النسل خوفاً على الصحة، فحرّموا تحديد النسل بسبب الخوف من الفقر وأباحوا تنظيم النسل بسبب الخوف على الصحة أو لأية أسباب أخرى ، والسبب الثاني أن التحريض على استخدام مثل هذه الوسائل ما هو إلا ضربة للإسلام من أعداء الأمة، لأنه يهدف إلى تقليل أعداد المسلمين حول العالم، وفي الحقيقة فهذا السبب واهٍ جداً لسبب بسيط وهو أن وسائل تنظيم النسل مستخدمة في كافة أنحاء العالم وتستهدف كافة البشر على اختلاف أنواعهم وأجناسهم وصفاتهم وأفكارهم ومللهم، فلو قالوا على الأقل أن السبب الرئيسي للترويج لهذه الوسائل هو زيادة أرباح الشركات التي تنتجها لربما كان ذلك أفضل. أما السبب الأول وهو الخوف على الرزق فيقودنا إلى المحور التالي

رأي جميل في مسألة تحديد النسل بسبب (الخوف من الفقر)

من ضمن أبرز الآراء التي تلفت النظر فعلاً لشدة منطقها هو رأي العالم الجليل والمفكر الإسلامي العظيم الراحل مصطفى محمود – رحمه الله – والذي اشتهر بسعة عقله وابتعاده عن التفكير النمطي وربطه العلم بالإيمان بطريقة ولا أروع بالإضافة إلى ابتعاده في تناوله وتحليله للأمور والقضايا المختلفة عن طريقة التحليل الفقهية والتي تعد من أكثر الطرق تضييفاً على الناس.

عرض الراحل العظيم هذه المسألة في كتابة ” الإسلام السياسي والمعركة القادمة ” حيث تناول الوضع في مصر وتحديداً في مدينة القاهرة ابتداءً من زمن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر – رحمه الله – وحتى وقت الرئيس محمد حسني مبارك، فقال أن عدد السكان تضاعف وبشكل كبير جداً، وأصبح الإنتاج لا يكفي لسد جوع الأجيال القادمة والتي تتسم بكثرة عددها، عندها أشار إلى حوار دار بينه وبين أحد أكبر المهندسين والمتخصص في تخطيط المدن وهو المهندس سيد كريم الذي رسم وخطط مدناً عربياً كثيرة جداً منها الكويت وعمان وبغداد والرياض والغردقة ومدينة نصر وغيرها وهذا ملخص ما دار بينهما:

بدأ الحديث بين الدكتور مصطفى والمهندسَ سيد عندما وجه الدكتور للمهندس سؤالاً عن أفضل الحلول لاختناقات القاهرة، فرد المهندس على الفور بقوله أن ما تعاني منه القاهرة يشبه السرطان، الذي يحتاج إلى جراحة فورية واستئصال، فالعمران الجانبي والهامشي والعشوائيات في القاهرة أصبحت أكثر من عمرانها الأصلي، كما أن القمامة بلغت حداً كبيراً في هذه المدينة الكبيرة، لأن أجهزة الدولة لم تعد قادرة على استيعاب كل هذه الأعداد من البشر في القاهرة، فالمرافق التي تنتشر فيها شدت العديد من الفلاحين ودفعتهم لترك قراهم وأراضيهم في مصر ليبحثوا عن رزقهم في القاهرة وهذا الأمر يعزى إلى سوء تنظيم الدولة وتوزيع مرافقها واهتمامها بالفلاحين وبالزراعة، وعندما اكتظت القاهرة بالسكان واكتظت مصر كلها في السكان، دفع هذا الأمر أهل البلد الأصليين إلى ترك بلدهم والذهاب لزراعة البلدان الأخرى والعمل فيها وهذا مما أضر كثيرا بمصر وأوصلها إلى ما وصلت إليه الآن.

وعندما انتهى المهندس سيد كريم من عرض المشكلة من وجهة نظر هندسة المدن، بدأ بطرح الحلول، وكانت الحلول المطروحة تنحصر في أن تبدأ عملية تفريغ القاهرة من محتواها السكاني وإعادتهم إلى مدنهم وقراهم الأصلية بالإضافة إلى نقل المرافق الحيوية وتوزيعها على كافة أرجاء المناطق المصرية، مع ضرورة أن توسع الشوارع ويزرع الغطاء الأخضر فيها وغيرها من الإجراءات.

هنا دهش الراحل مصطفى محمود وصدم من صعوبة الحلول التي طرحها المهندس، وسأله عن مدى فاعلية هذه الإجراءات إن لم تكن مترافقة مع عملية توقف للنمو السكاني الهائل الذي تشهده مصر، فقال له المهندس أن هذه مهمة الطبيب وهو صاحب الفتوى في مثل هكذا مواضيع، وهو بهذا الجواب يكون قد حول هذا السؤال إلى السائل وهو الدكتور مصطفى.

عندها كان رأي الدكتور مصطفى رأياً جميلاً ويحمل من الحكمة والمنطق ما لم يستطع علماء الدين والفقهاء أن يتنبهوا إليه، حيث عارض الدكتور وبشدة الآراء التي تدعو إلى تحريم تنظيم النسل خوفاً من الفقر، بقوله أن مصر لم تفلح فيها الحملات التوعوية بمخاطر زيادة السكان بشكل لا يترافق مع صعود في مستوى الخدمات وتحسن في الأوضاع المعيشية والاقتصادية للشعب، بل وعلى العكس من ذلك فقد أعاق هذا الأمر عمليات تحسين مستوى المعيشة والخدمات في البلد، وقال أن الحل الوحيد هو أن تزرع كبسولات الهرمونات التي تمنع الحمل لمدة خمس سنوات، وأن تصبح من الإجراءات المتبعة بعد أن تلد الأم طفلها الثاني مباشرة، وبدأ بعدها بالرد على خطباء المساجد والوعاظ وأئمة المساجد وعلماء الدين، وركز رده تحديداً في الرد على ادعائهم بأن هذه الوسائل تعارض الشريعة والعقيدة من ناحية أن من يلجأ إليها يكون خائفاً على رزقه. وكان رأيه في هذه الحيثية رأياً جميلاً كعادته، فقال أن المسلمين لم يفهموا حقيقة الرزق كما يجب أن تفهم، فالله هو من يرزقنا ولكنه لن يضع الرزق في فم المحتاج، فالرزق بحاجة إلى السعي والسعي الجاد، وحتى في أصعب الظروف، ولكن الناس ليسوا كلهم قادرين على السعي، فأحوالهم تختلف من شخص لآخر فهناك من هو بليد وكسول وهناك من هو مريض وهناك الذي لا يمتلق اللياقات العقلية الكافية التي تؤهلهم للسعي وكسب الرزق وهناك العديد من الحالات الأخرى، فهل سيرزق الله كل هؤلاء دون أن يسعوا، وهو الذي لم يرزق النبي أيوب – عليه السلام – حتى وهو مريض إلا بعد أن سعى، وهل رزق الله تعالى العذراء مريم إلا بالرطب وهي في حالة المخاض إلا بعد أن سعت وهزت جذع النخلة، ولماذا لا يرزق الله تعالى أطفال المجاعات مع علمه بحالهم، فأطفال الصومال على سبيل المثال يموتون يومياً وبالآلاف ومن الجوع وهذا لا يعني الله تعالى لن يرزق هؤلاء الأطفال، فهو الرزاق بلا أدنى شك في ذلك ولكنه لن يضع الرزق بين أيديهم أو بين يدي أي شخص غيرهم بدون أن يسعى. ومن هنا وبما أن السعي غير موجود فالرزق أيضاً لن يكون موجوداً وبالتالي فلا بد من اللجوء إلى الوسائل التي تنظم من النسل إلى أن تتغير عقلية الناس.

هذا هو رأي العقل … هذا هو الرأي الجميل