كيف وازن الإسلام بين الروح والمادة

وسطية الإسلام

شاءت إرادة المولى -عزّ وجلّ- أن تكون رسالة الإسلام خاتمةً لجميع الرسالات الإلهية، وناسخةً للشرائع قبلها، ولأجل دوام هذا التشريع الخاتم سالماً من عبث البشر، ومُصاناً عن الزيادة فيه، أو الانتقاص منه؛ فقد تكفّل الله -تعالى- بحفظه، حيث قال سبحانه: (إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ)،[١] مثلما تكرّم الله على عباده بأنْ جعل تشريعات الإسلام تُراعي متطلبات الجسد، وأشواق الروح، وتطلّعات العقل، وما جعل على أحد في الدّين من حرجٍ؛ فاستحقّ هذا الدين العظيم أن يكون عالمياً، وصالحاً لكلّ بني البشر عبر امتداد البقاع واختلاف الأزمان، وليس عجباً أن يحمل الإسلام هذه الميزة؛ فهو ينتسب بنُظمه وأحكامه إلى الله -سبحانه- الأعلم بما يصلح لسياسة حياة الناس، قال الله عزّ وجلّ: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).[٢]

ويعدّ التوازن في الحضارة الإسلامية من الميزات التي يميّزها عن الحضارات الأخرى، حيث إنّ حضارة الإسلام ربطت الإنسان بخالقه، ووصلت الأرض بالسماء، وجعلت العمل في الأرض عُدّةً عند لقاء الله -تعالى- في الآخرة، ونجح المسلمون في تطبيق هذه الأسس العظيمة على واقع معاشهم؛ فأنتجوا رقّيهم المادي ممزوجاً بعلوٍّ أخلاقي، دون إفراطٍ أو تفريطٍ؛ فاستحقّوا أنْ يكونوا كما أرادهم الله -سبحانه- أمّةً وسطاً، قال الله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)،[٣][٤] ولكن؛ كيف استطاع الإسلام أنْ يوازن بين الروح والمادة، وما هي أصول ومظاهر هذا التوازن؟

أصول التوازن بين الروح والمادة في الإسلام

يمتاز الوحي الإلهي الذي جاء به النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بتشريعاتٍ وأحكامٍ توافق الفطرة البشرية، وتُراعي أشواق الروح وحاجات الجسد، وامتازت بموازنتها بين العمل للمعاش في الدنيا والعمل للآخرة، حيث تظهر سمات هذا التوازن في:[٥]

  • الحرص على تهذيب الغرائز الفطرية للإنسان، وعمل التشريع الإسلامي على ضبطها وفق أحكام تضمن التفاعل معها دون غلوٍّ، ولم يقبل تجاهلها أو إلغائها ومصادرتها كما كان شائعاً عند كثير من الأمم السالفة، وابتعد بها عن المثاليات غير الواقعية كما هو الحال عند بعض الديانات ودعاة الرّهبانية.
  • ينطلق الإسلام من قاعدة أنّ الله -عزّ وجلّ- الذي خلق البشرية جمعاء هو الأعلم بما يُصلح حال الناس، وما ينسجم مع جبلّتهم التي خلقهم عليها، وهو العليم الخبير بمساوىء الإفراط أو التفريط في إشباع هذه الغرائز، لذا كان التشريع الحكيم قائماً على هذا الفهم، وكان الهدي النبويّ الحكيم يُشكّل أنموذجاً تطبيقياً لهذا الاعتدال في التعامل مع الغرائز البشريّة.
  • يؤصّل الإسلام عبر تشريعاته وأحكامه لضرورة إدراك أنّ الإنسان خليطٌ من الروح والجسد، وأنّ كلا الأمرين يُشكّلان إنسانية الإنسان، دون طغيانٍ لأحدهما على الآخر، فللرّوح خصائصها ووظائفها وحقوقها، وللجسد المادي أيضاً خصائصه ووظيفته وحقوقه، وهذا يوافق ما خلقه الله في كلٍّ منهما.
  • يدعو الإسلام إلى أن يعطي العبد نفسه حقّها في التمتّع بالمباحات، ولكن دون مساسٍ أو اقترابٍ من فعل المعاصي والآثام، ويرشده إلى ألّا يُرهق نفسه في المبالغة في العبادات، ويحثّه على تحقيق التوازن بين حاجات الجسد والرّوح.
  • يؤكّد المنهج النبوي في التوازن والاعتدال على ضرورة أن تكون تربية الأبناء تربيةً قائمةً على هذا الفهم الدقيق دون طغيانٍ لجانبٍ على آخرٍ، وإلّا أدّى ذلك إلى خللٍ واضطرابٍ في بناء القيم الروحية، والقوّة المادية عند الأبناء.
  • المعيار الضابط لميزان الاعتدال يكون بعَرِض الإنسان تصرفاته على تعاليم الشريعة الإسلامية، وهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فإنْ وافق عمله ذاك المعيار فلا بأس، وإلّا أعاد ترتيب قناعاته وأفعاله وفق هدي الإسلام ونُظُمِه.
  • يعدّ التوازن في الإسلام أصلاً أصيلاً في منهج التربية الإسلامية الراشدة، حيث إنّ النظرة الشرعية للإفراط تماثل النظرة للتفريط، ونزوح الإنسان بنفسه نحو أحدهما يُفقِد قدرته على تحقيق رسالته المنشودة في الحياة بأداء مهمّة الاستخلاف وعمارة الأرض، كما أنّه يؤصّل لمفهوم المسؤولية المشتركة في تحقيق التوازن المطلوب؛ فالفرد له دوره، والمجتمع المحيط به عليه مسؤولياته في تأمين قدرة الفرد على تحقيق معاني التوازن بين الرّوح والمادة، قال الله سبحانه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).[٦][٧]
  • ينظر الإسلام إلى الروح على أنّها الطاقة التي يتمكّن العبد فيها من الصلة بالله تعالى؛ فلا غنى له عن هذا الوصل، ولكنّه وصلٌ لا يقصد به الانقطاع عن مهمّة عمارة الأرض بالخير والحقّ، مصداقاً لقول الله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُم فيها)،[٨] وانطلاقاً من هذا الفهم نجد أنّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- زجر رجلاً كان يظهر التماوت في تنسّكِه؛ فقال له: (لا تُمتْ علينا ديننا)، ويظهر توازن الإسلام في دعوته إلى استخدام العقل، والحثّ على إعمال الفكر، والسّير في مناكب الحياة للاتعاظ والاعتبار والتجربة والملاحظة، قال الله عزّ وجلّ: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).[٩][٧]

آثار الخروج عن توازن الروح والمادة

تشهد المجتمعات التي آثرت الخروج عن حدّ التوازن الذي رسمه الإسلام منهجاً ضامناً لسعادة الناس، فساداً يمتدّ أثره السلبي إلى مجالاتٍ كثيرةٍ، حيث إنّ الإفراط أو التفريط في التّعامل مع حاجات الروح والجسد يؤدي إلى:[١٠]

  • ظهور الأمراض النفسية والمشكلات الاجتماعية الكثيرة نتيجة فساد الفطرة، والنزوع بها عن حدّ الاعتدال والتوازن، وهذا مُشاهد ومُعاشٌ في كثير من المجتمعات، ومن الشواهد عليه العزوف عن الزواج والميل إلى الرّهبنة، ولأنّ هذا غلوٌ في حاجة الروح، ومبالغة مرفوضة في الشرع الحكيم؛ فقد نتج عنها آفاتٍ خطيرةٍ، مثل: الشذوذ الجنسي في العلاقات، سواءً النساء بين بعضهن، أو بين الرجال بعضهم مع بعض، كما إنّ الرهبانية تحمل دعوةً إلى ترْك مهمة الاستخلاف في الأرض وعمارتها، مع ما يحمله ذلك من العزلة عن محيطه الاجتماعي، وعزوفه عن الانخراط في العمل والمبادرة والإنتاج.
  • يؤدي الانغماس والمبالغة في الماديات وحاجات الجسد، إلى الإفراط غير المبرّر في إشباع الرغبات الجسدية بشتّى صورها وأشكالها، وصرف الاهتمام عن متطلبات الروح وحاجاتها.

المراجع

  1. سورة الحجر، آية: 9.
  2. سورة الملك، آية: 14.
  3. سورة البقرة، آية: 143.
  4. ياسر تاج الدين (30-8-2105)، “التوازن والوسطية في الحضارة الإسلامية”، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 6-7-2018. بتصرّف.
  5. شيماء علي جمال الدين (21-10-2015)، “الموازنة بين متطلبات الروح والجسد في هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم”، www.islamway.net، اطّلع عليه بتاريخ 4-7-2018. بتصرّف.
  6. سورة المائدة، آية: 2.
  7. ^ أ ب شريف ديودار (5-7-2011)، “التوازن في التربية الإسلامية”، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 6-7-2018. بتصرّف.
  8. سورة هود، آية: 61.
  9. سورة يونس، آية: 101.
  10. البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة (26-6-2010)، “التوازن بين حاجات الروح ومطالب الجسد”، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 4-7-2018. بتصرّف.