ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة

منع الظلم في الإسلام

يُعتبَّر الظلم من الأمور القبيحة في جميع الملل والنحل، لأنَّ فيه عدوان على حقوق الآخرين، كما أنّ فيه مجاوزة لحدود الشريعة، ووضع الأمور في غير موضعها الشرعي، ومن صوره القيام بما يضر العبد، أو يَبخسه حقه، ويَحرمه منه، وقد حَرَّمه الله -تعالى- في قوله: (وَقَد خابَ مَن حَمَلَ ظُلمًا)،[١] وذلك لأنَّه عادة ما يقع على الضعفاء الذين لا يستطيعون دفع الظلم عن أنفسهم، وقد ورد تحريمه في السنّة النبويّة أيضاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (قالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولَمْ يُعْطِ أجْرَهُ).[٢][٣][٤]

خصوم الله يوم القيامة

حرَّم الله -تعالى- جميع أشكال الظلم وهو خَصم لجميع الظالمين، لكنَّه شدَّدَّ على هؤلاء الثلاثة المذكورين بالحديث الشريف بالتصريح بهم؛[٣] لأنّهم تَجَّنوا على حقّه -تعالى- فالذي نقض عهد الله، جنى على عهده بعدم الوفاء والنقض والخيانة، والذي باع حرّاً، جنى على حقّ الله بالعبادة التي أقرّها في قوله -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)؛[٥] لأنّ العبد لا يستطيع أن يقوم بالعبادات كما يقوم بها الحرّ وخاصّةً بعض النوافل والفروض غير الواجبة على العبد بينما هي واجبة على الحُرّ؛ كالحجّ والجُمعة والجهاد والصَدقة، ولذلك كلّه عَظُمت جريمته، والرجل الذي استأجر عاملاً ولم يوفه حقّه؛ كالذي استعبد حُرّاً؛ لأنَّه عطَّله عن أداء كثير من النوافل؛ فعظُم ذنبه،[٦] وهذا الحديث -المذكور سابقاً- يجمع بين الخوف والرجاء الَّلذان تصفو بهما العبادة حيث يكون الخوف من التقصير في، والشكر يكون على توفيق الله -تعالى- للعبد بأداء العبادات، ووجود ذلك في الحديث ظاهر في جانبين، كما يأتي:[٧]

  • تعزيز جانب الخوف من الله -تعالى- بتعظيم الخصال المذكورة في الحديث، وجعلها من الكبائر والجرائم والخطايا العظيمة التي يجب الحذر منها.
  • تعزير جانب الرجاء بتسليط الضوء على أنَّ الخَصم هو الكريم الرحيم الرؤوف الغني -سبحانه وتعالى- الذي لا ينقصه شيء ليناقش فيه، ولا يَعظُم عليه ذنب ليغفره.

رجل أعطى بي ثم غدر

أجمع العلماء على تحريم الغدر والنَّكثِ؛[٨] لأنّه أحد الخصال التي توعدَّ الله -تعالى- صاحبها بأن يكون خصمه يوم القيامة، فقوله -تعالى- في الحديث السابق: (رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ)،[٢] يعني: أعطى عهداً باسم الله -تعالى- أو حلف به، ثم نقض هذا العهد، أو أعطى الأمان باسم الله -تعالى- أو بما شرعه من دينه، ثم نقضه، قال الطيبي: إنّ العبد عندما وثّق عهده بإقرانه باسم الله -تعالى- كان لزاماً عليه أن يوفي به لقوله -تعالى-: (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).[٩][١٠]

وليس من صفات المؤمن الغدر إنّما هو مأمور بالوفاء بالعهد في كثير من الآيات الكريمة، ومنها قوله -تعالى-: (وَأَوفوا بِعَهدِ اللَّـهِ إِذا عاهَدتُم وَلا تَنقُضُوا الأَيمانَ بَعدَ تَوكيدِها وَقَد جَعَلتُمُ اللَّـهَ عَلَيكُم كَفيلًا إِنَّ اللَّـهَ يَعلَمُ ما تَفعَلونَ)،[١١] وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الغادِرَ يُرْفَعُ له لِواءٌ يَومَ القِيامَةِ، يُقالُ: هذِه غَدْرَةُ فُلانِ بنِ فُلانٍ)،[١٢] ولا شكّ أن هذا التوبيخ للغادر والتشهير به على رؤوس الخلائق يوم القيامة ما كان إلّا لعِظَّم ذنبه وقباحته؛ فيصير مهاناً ذليلاً؛ لأنَّه قام بفعل تستنكره العقول كما تستنكره الفطرة السليمة؛ لأنّ له تأثير على الحياة العامة فيخلّ بنظامها، وقوانينها، ومصالحها، وقد انتشر الظلم في العصر الحاضر حتى بين أفراد العائلة الواحدة على الرغم من أنَّ الله -تعالى- أمر بالوفاء بالعهد حتّى مع غير المسلمين.[١٣]

رجلٌ باع حراً فأكل ثمنه

حرَّم الله -تعالى- بيع الحر وجعله من الكبائر ويتّضح ذلك من كونه أحد الخصال التي توعدَّ الله صاحبها بأن يكون خصمه يوم القيامة؛ فقوله -تعالى- في الحديث السابق: (ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ)،[٢] يعني باع شخصاً حُرّاً وهو يعلم بحريّته؛ أي كونه عامداً متعمّداً، وأخذ ثمنه وأدخله على نفسه،[١٤] وقد استحق من يقوم بهذا الفعل أن يكون الله -تعالى- خصمه لأنَّه انتهك حقّاً من حقوق الله -تعالى- وهو حق العبودية؛ لأنَّ الله -تعالى- خلق الناس أحرارً؛ لذلك لا يحقّ لأحد أن يَستَرق حقّ غيره بغير سبب شرعي، حتى لو كان ابنه لا يحقّ له أن يبيعه ويأكل ثمنه.[١٥]

رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره

حرَّم الله -تعالى- استئجار الأجير وعدم إعطائه حقّه وجعله من الكبائر ويتّضح ذلك من كونه أحد الخصال التي توعدَّ الله -تعالى- صاحبها بأن يكون خصمه يوم القيامة، فقوله -تعالى- في الحديث السابق: (ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولَمْ يُعْطِ أجْرَهُ)؛[٢] أي أنَّه حصل على العمل الذي يريده من الأجير لكن في المقابل لم يعطِ هذا الأجير أجره أو لم يعطه كامل أجره،[١٦] وقد استحق القائم بهذا الفعل أن يكون الله -تعالى- خصمه يوم القيامة لأنَّه أكل مال هذا العامل بالباطل بالرغم من كدّه وتعبه،[٨] وقد خالف بفعله أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله التي حثَّت على الاعتناء بالأجير وإعطاءه حقّه، ومنها ما يأتي:[١٧]

  • إرشاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- المسلمين إلى الاعتناء بحقّ الأجير؛ فقال: (أعطوا الأجيرَ أجرَهُ قبلَ أن يجفَّ عرقُهُ)،[١٨] فقد أرشد إلى المبادره في إعطائه أجرته قبل أن يجفّ عرقه كناية عن السرعة وعدم المماطلة في توفيته حقّه؛ لأنَّ ذلك يعتبر من الظلم الذي حذر منه الله -تعالى- في قوله: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)،[١٩] ورسوله في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ).[٢٠]
  • اعتناء الإسلام بحقّ الأجير والإرشاد إلى عدم التكبّر على الخادم؛ لأن الخادم قد يكون عند الله -تعالى- أفضل من المخدوم لأنَّه لا يفاضل بين الناس على حسب الأموال والأجسام وغير ذلك من زينة الدنيا ومتاعها؛ وإنما بحسب التقوى لقوله -تعالى-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ). [٢١]
  • إحسان الإسلام للخادم من خلال الإرشاد إلى حسن التعامل معه والتي ضرب لها النبي -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في معاملته مع خادمه أنس بن مالك -رضي الله عنه- الذي قال بنفسه: (خَدَمْتُ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ، وَاللَّهِ ما قالَ لِي: أُفًّا قَطُّ، وَلَا قالَ لي لِشيءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا؟)،[٢٢] وقد حذَّر صحابته -صلى الله عليه وسلم- من الإساءة إلى الخادم أو تكليفه ما لا يطيق، ومساعدته حال تكليفه ما لا يطيق بنفسه.

المراجع

  1. سورة طه، آية: 111.
  2. ^ أ ب ت ث رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 2227، صحيح.
  3. ^ أ ب جلال الدين السيوطي (1998)، التوشيح شرح الجامع الصحيح (الطبعة الأولى)، الرياض: مكتبة الرشد، صفحة 1584، جزء 4. بتصرّف.
  4. سعيد عبد العظيم (05-04-2006)، “الظلم عاقبته وخيمة”، https://www.islamweb.net/.
  5. سورة الذاريات، آية: 56.
  6. ابن علان (2004)، دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (الطبعة الرابعة)، بيروت- لبنان: دار المعرفة، صفحة 427، جزء 8. بتصرّف.
  7. المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير (الطبعة الأولى)، مصر: المكتبة التجارية الكبرى، صفحة 315، جزء 3. بتصرّف.
  8. ^ أ ب الصنعاني، سبل السلام، الرياض: دار الحديث، صفحة 116، جزء 2. بتصرّف.
  9. سورة البقرة، آية: 27.
  10. الملا علي القاري (2002)، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، بيروت- لبنان: دار الفكر، صفحة 1991، جزء 5. بتصرّف.
  11. سورة النحل، آية: 91.
  12. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم: 6177، صحيح.
  13. المناوي، الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية، دمشق: دار ابن كثير، صفحة 123-124. بتصرّف.
  14. حمزة قاسم (1990)، منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري، دمشق-الجمهورية العربية السورية: مكتبة دار البيان، صفحة 293-294، جزء 3. بتصرّف.
  15. ابن عثيمين (2006)، فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (الطبعة الأولى)، القاهرة-جمهورية مصر العربية: المكتبة الإسلامية، صفحة 252-253، جزء 4. بتصرّف.
  16. الصنعاني (2011)، التنوير شرح الجامع الصغير (الطبعة الأولى)، الرياض: دار السلام، صفحة 197، جزء 5. بتصرّف.
  17. “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه”، www.islamweb.net، 31-12-2012، اطّلع عليه بتاريخ 28-7-2020. بتصرّف.
  18. رواه الألباني، في صحيح ابن ماجه، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم: 1995، صحيح.
  19. سورة الحج، آية: 71.
  20. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله، الصفحة أو الرقم: 2578، صحيح.
  21. سورة الحجرات، آية: 13.
  22. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 2309، صحيح.