مفهوم الوعي في الفلسفة المعاصرة
ما هو الوعي
إنّ الوعي خاصية من الخصائص الجوهريّة التي تميز الإنسان عن بقية المخلوقات الحيّة والأشياء الأخرى، فيكون مصاحباً لكل أفعال وأفكار الإنسان، وهذا هو الوعي التلقائي. أما فيما يتعلق بالوعي السيكولوجي، فهو كل ما يدور داخل الذات البشرية من مشاعر وأحاسيس، والوعي كذلك يتمظهر في ضوء الحياة العملية، كالوعي السياسي أو الأخلاقي، إذاً للوعي العديد من الأشكال والمظاهر، كما أن دراسات الفلسفة والنفس حطت الوعي محطة للنقد والإشكاليات، معتبرة الوعي الغطاء الخارجي للنفس أي أنه سطح الذات، أما الجزء العميق للذات فهو اللاوعي.
الوعي والإدراك الحسي
كما يقول أبو الفلسفة الحديثة “روني ديكارت” في ذلك، بأن الوعي هو حقيقة بديهية ندركها من خلال الحدس العقلي، فلا يمسه الشك أبداً. كذلك اعتبره ديكارت من الخصائص الأساسية والثابتة التي تميز الأنا كجوهر للمفكر. وكما يقول ديكارت “أنا أشك”، إذاً فأنا أفكر طالما أنّالشك نوع من التفكير، وبالطبع إن كنت أفكر فأنا موجود. “أنا أفكر، فأنا موجود” هذه الصيغة المعروفة بالكوجيطو الديكارتي الدالة على الوعي.
تساءل ديكارت: “أي شيء أنا…؟” فأجاب: “أنا شيء مفكر”. ثم تلا ذلك تساؤلاً آخر: “ما الشيء المفكر؟”، رد فأجاب: “إنه شيء يشك ويفهم ويتصور ويثبت وينفي” … ومع أنَ للأنا المفكر الكثير من الخصائص التي لا تنفصل عنه، مثل: الشك والتخيل والإحساس والتصور، إلا أنه يتميز كذلك بالوحدة والثبات، وبالرغم من كل الأفعال الصادرة منه، فيبقى هو نفسه وفي تطابقٍ مع ذاته، الأنا يفكر إذاً هو موجود، وهذا الوجود يقيني لا يمسه أي شك، فالأنا موجود حتى في حالة النوم، حتى في حالة افتراض وجود أي قوة عليا للخداع أو التضليل، الأنا موجود دائماً.
لكن بخلاف ذلك، ما يوضحه الفيلسوف التجريبي ديفيد هيوم: أنه بدون الإدراك الحسي يستحيل للأنا أن يعي ويشعر بذاته، أي أنه بزوال الإدراك الحسي يزول الوعي بالذات، فيختفي الأنا ولا يبقى له وجود؛ حيث لا يمكن أن يعي الأنا بذاته إلا عن طريق الإدراك الحسي. وهذا الشرط الرئيسي للوعي بالذات، وبما أن الإدراك الحسي يزول مع الموت، فالوعي كذلك يزول معه، فلا يبقى للأنا وجود، ويصبح خالصاً من العدم.
الوعي واللاوعي
بما أن الفلسفة الكلاسيكية قد غفلت عن الجوانب اللاواعية في الإنسان، حيث اعتبرته واعياً بالدرجة الأولى، فالفلسفة والعلوم الإنسانيّة الحديثة قد انتبهت لذلك، فنرى ما قدمه الفيلسوف والعالم النفسي سيغموند فرويد في دفاعه عن فرضية اللاوعي أو اللاشعور كونها فرضيّة مشروعة وضرورية. فرويد وضح بأنّ الكثير من أفعال الإنسان وأفكاره لا تُفسر من الوعي؛ لأن منبعها دوافع لاشعوريّة ولاواعية، كما أنّ الممارسات والدراسات الطبية النفسية أثبت مشروعية فرضية اللاوعي ونجاحهها، كما أنها استخدمت كوسيلة وتجربة علمية في علاج كثير من الأمراض النفسية. فاللاوعي هو ذلك الجانب المخفي العميق في الإنسان المكنون في جهازه التنفسي المليء بالدوافع والرغبات الغريزية والمكبوتة. ففلتات اللسان والهفوات والإبداعات بأشكالها الفنية والأدبية كلها مظاهر وشكليات من دوافع اللاوعي، فكلها أشكال للتعبير عما بنفس الإنسان من رغبات ودوافع، خارجاً بها بكل حرية.
من الحجج والبراهين الكثيرة التي التي قدمها فرويد ليثبت صحة فرضيته، أن معطيات الوعي ناقصة ولا تفسِر العديد من الأفعال وردات الفعل النفسية كالأحلام مثلاً، كما أثبت الكثير من الأفعال التي تخطر على الإنسان التي لا تصدر من الوعي، فهي بذلك صادرة من اللاوعي.
يتكون الجهاز النفسي بالنسبة لفرويد من الهو، والأنا، والأنا الأعلى، وأنّ أصل الجهاز الهو، وهو ما تتمثّل فيه الغرائز الهادفة لتحقيق اللذة الحسية، فالهو لا عقلي، لا شعوري، لامنطقي، لا زماني، ولا مكاني، فلا يقيم اعتباراً لأي شيء كان لتحقيقه رغباته الغريزية. أما بالنسبة للأنا، فهو نتيجة تصادم دوافع الهو بالواقع، وهو منطقة الصراع التي تقوم بالوظيفة الأساسية في الجهاز النفسي، والتي هي التوفيق بين دوافع الهو الغير معقولة مع الأوامر المثالية للأنا الأعلى، وحيث إنّ الواقع يتحكم بالأنا، فالمثال هو ما يتحكم في الانا الأعلى؛ أي أنّ الضمير الأخلاقي هو ما يتحكم به. وبما أن الوعي هو العواطف والأفكار والصور المشكلة والمكونة للحياة العقلية لدى الفرد، فاللاوعي هو الجانب العميق في حياة الفرد النفسية المكونة من ميولاته ورغباته المكبوتة.