أين قامت أقدم المدن

المُدن حول العالَم

يعيش الإنسان في مجتمعاتٍ حضريّة ذات طابعٍ ثقافيّ، وقانونيّ، وتقليديّ مُميّز لكلّ منطقةٍ في العالَم، تُسمَّى المدينة؛ والمدينة مركز سكّاني دائم ومُنظَّم بدرجة عالية، وقد يتمركز السكّان في منطقةٍ أقلّ حجماً وأهميّة، فتُسمَّى بلدة أو قرية، ولا يُشترَط أن تكون المدينة أكثر كثافةً سكّانية من القُرى، ولكنّها تكون أكثر تميُّزاً في موقعها وأهميّتها الثقافيّة، كما تتميّز بتنوُّع مساكنها، وبتنوُّع الأنظمة الاجتماعيّة، وتَوفُّر العديد من الأنشطة فيها.[١] وأصل كلمة مدينة لغةً هي دين، وقد أطلق الأكاديّون والآشوريّون اسم الدين على المدينة بمعنى القانون، وتُعرَّف المدينة اصطلاحاً بأنّها: مجتمع مُستقِرّ ذو كثافة سكانيّة وعمرانيّة عالية، وهي خلاصة تاريخ الحياة الحضريّة؛ إذ تتكوّن من السكّان، والمواصلات، والتجارة، والاقتصاد، والحكومة، والسياسة، وفنّ العمارة، والثقافة، والذوق، كما أنّها صورة لتطوُّر الأُمَم وثقافاتها، وتُعَدّ صورة لتاريخ الحضاراتأيضاً، وتُقدِّم المدينة لسكّانها الاحتياجات المعيشيّة، والحياة الكريمة؛ لذا يهتمّ المُتخصِّصون بدراسة نواحيها التخطيطيّة، والاجتماعيّة، والبيئيّة، وغيرها.[٢]

أَقدَم المُدن

نشأت العديد من المُدن في العصور القديمة كمستوطنات للتجمُّعات البشريّة، وهي مُدن تتّخذ إلى الآن أهميّة تاريخيّة، ودينيّة، وثقافيّة، أمّا قديماً فقد اتَّخذت معظم هذه المُدن أهميّتها؛ لكونها مراكز تجاريّة، ومن أقدم المُدن التي يعود تاريخها إلى ما يسبق عام 3000 ق.م:[٣]

  • مدينة الجبيل في لبنان: تَبعُد مدينة جبيل شمال العاصمة اللبنانيّة عن بيروت مسافة 42كم، وهي واحدة من أقدم المُدن في العالَم؛ إذ يعود تاريخ بداية استيطان الناس فيها إلى عام 5000 ق.م، وهي مدينة ثقافيّة ضمّتها مُنظَّمة اليونسكو إلى لائحة المواقع التراثيّة في العالم، حيث بدأت المدينة بمساحة أصغر، وكان يُطلَق عليها اسم (قرية جوبال)، كما كان أهلها يمارسون الصَّيد، ثمّ امتَهنُوا صناعةَ السُّفُن، وتحوَّلت القرية بشكلٍ سريعٍ إلى ميناءٍ تجاريّ مُزدحِم، يُصدِّر الأرز، والخشب إلى مصر، ويَستورِد ورق البردي؛ ولذلك أَطلقَ عليها الإغريق اسم (جبيل) الذي يَعنِي ورق البردي، ومن الجدير بالذِّكر أنّ جبيل احتُلَّت من قِبَل المصريِّين قديماً؛ لذا تحمل بعض عناصرها طابعاً من الثقافة المصريّة.
  • مدينة آرغوس في اليونان: تُعَدّ مدينة آرغوس اليونانيّة منطقةً ذات أهميّةٍ ثقافيّةٍ ودينيّةٍ؛ فتاريخها يعود إلى عام 5000 ق.م، حيث أُطلِق على المدينة اسم (آرغوس)؛ نسبةً لابن زيوس إله الميثولوجيا الإغريقيّة، والذي وَضَع نظاماً ذا معايير لتنظيم الدولة، من ضمنها استخدام العُملات الفضّية، وقد بقيت للمدينة سُمعتُها المُتميِّزة حتى هُزِمت على يد سبارتانز، إلّا أنّها نهضت مُجدَّداً في عهد البيزنطيِّين حتى جاءَ الأتراك ودمّروها، ومن الجدير بالذِّكر أنّ أعمال الحفريّات في أنقاض المدينة كَشَفت عن بقايا معابد، ومسارح، وتماثيل، وفخّار.
  • مدينة حلب في سوريا: بدأت مدينة حلب كقرية صغيرة منذ عام 4300 ق.م، ثمّ نَمَت لتُصبِح مركزاً للأقمشة والألبسة، ونظراً لوقوع مدينة حلب كنقطة وُسطى بين طُرُق التجارة القديمة، أصبح للمدينة أهميّة كبيرة؛ فالبحر الأبيض المُتوسِّط يَحُدّها من الغرب، ونهر الفرات من الشرق، وعندما دخل العرب مدينة حلب بنَوا فيها قلعةً تُبيِّن قوّتهم العسكريّة، وخلال العَهد العثمانيّ، دخلت المدينة عصرها الذهبيّ، وذلك في القرنين 16 و17م، ومع دخول القرن 20م، ازداد عدد السكّان، وانتعش الاقتصاد الصناعيّ فيها، وتكتسب مدينة حلب الآن أهميّة دينيّة؛ وذلك بسبب وُجود المسجد الكبير، وكنيسة القدِّيس سمعان فيها.
  • مدينة الشوشان في إيران: يعود تاريخ مدينة الشوشان الإيرانيّة إلى عام 4300 ق.م، وهي واقعة في جبال زاغروس، وتَبعُد ما يقارب 250 كم شرق نهر دجلة، وتُعَدّ الآن العاصمة الإدارية لمحافظة شوش في محافظة خوزستان، وقد كانت مدينة الشوشان واحدة من أهمّ مُدن العالم القديم، حيث ذُكِرت في الكتاب المُقدَّس، وبعض النصوص اليهوديّة، كما أنّ المدينة تعرّضت للدمار على يد الأشوريّين في الفترة ما بين عامي (645-640) ق.م، إلّا أنّ ملك فارس المسمّى كورش أعاد بناءها سنة 538 ق.م، واتَّخذها ملكا الفُرس: قورش العظيم، وداريوس العظيم، عاصمةً ومدينة تجاريّة للإمبراطوريّة الفارسيّة، علماً بأنّ مُنظَّمة اليونسكو أضافت مدينة الشوشان إلى قائمة التراث العالميّ.
  • مدينة صيدا في لبنان: بدأ الناس يقطُنون مدينة صيدا منذ عام 4000 ق.م، وهي مدينة ذات أَصْل فينيقيّ، حكمتها العديد من الأُمم، هي: الأشوريّون، والبابليّون، والفُرس، والميديّون، والسلوقيّون، والبطلميّون، والرومان، وقد دُمِّرت في عَهد الصليبيّين، ثمّ أخذت صيدا تستعيد ازدهارها عام 1517م في عهد العثمانيّين ولمدّة 400 سنة، ثمّ أصبحت المدينة ميناءً مُهمّاً لدمشق، عندما احتلّها الفرنسيّون حتى عام 1791م، حيث انتهى فيه دور المدينة التجاريّ، وفي عام 1837م، تعرّضت المدينة لزلزال أدّى إلى تدميرها، إلّا أنّها بُنِيَت من جديد، وهي الآن مدينة لبنانيّة مُنظَّمة تحت بلديّة صيدا.
  • مدينة أثينا في اليونان: بدأت مدينة أثينا كمُستوطَنة صغيرة في العصر الميكينيّ سنة 4000 ق.م، حيث كانت مدينة زراعيّة تُصدِّر محاصيلها عبر البحر؛ وبسبب ذلك اشتُهِرت بتجارتها، كما اعتُبِرت مدينة أثينا مركزاً للتجارة، والفنون، والعمارة، والتعليم، وهي تُعَدّ أشهر مدينة قديمة تُرسي قواعد الديمقراطيّة فيها، وكان للمدينة سوق يُسمَّى (أغورا)، يجتمع فيه المفكِّرون والفلاسفة، ومن خلاله ظهر أهمّ الفلاسفة في التاريخ، كسقراط، وأبقراط، كما أنّ فيها أحد أهمّ المعابد التاريخيّة، والذي يُدعَى البارثينون، علماً بأنّ المدينة تعرّضت للتدمير عندما غزاها الفُرس، إلّا أنّه تمّت إعادة بنائها لاحقاً.
  • مُدن أخرى: وفيما يأتي مجموعة من أهمّ المُدن القديمة:
    • مدينة القدس الفلسطينيّة، ويعود تاريخها إلى عام 3900 ق.م.
    • مدينة غازي عنتاب التركيّة، التي يعود تاريخها إلى عام 3650 ق.م.
    • مدينة الأقصر المصريّة، ويعود تاريخها إلى عام 3200 ق.م.
    • مدينة أريحا الفلسطينيّة، التي يعود تاريخها إلى عام 3000 ق.م.

بداية ظهور المُدن

كان الإنسان الحجريّ يتنقّل باستمرار من منطقةٍ إلى أخرى بحثاً عن الطعام، فلم يكن يستقرّ في مكان حتى يشدّ رحاله إلى منطقةٍ أخرى، واستمرّ الوضع على هذا الحال حتى اكتشفَ الإنسان الزراعة، فاستقرّ بجانب أرضه، وحيواناته، وسكن إلى جانب مجموعات من الناس، حيث كانوا يعيشون معاً ضمن منظومة اجتماعيّة صغيرة في منطقة الشرق الأوسط، وجنوب غرب آسيا، وشرق أفريقيا، وبسبب استقرار الإنسان وعدم حاجته للبحث المُستمِرّ عن الطعام، استطاع إيجاد وقت لممارسة أنشطةٍ مُختلفةٍ، كممارسة الدين، والفنّ، والصناعة، فبدأ التطوُّر البشريّ في صناعةِ الأدواتِ، والملابس، والسُّفن، ممّا أدّى إلى ظهور تجمُّعات أكبر للسكّان بما يصل إلى 3000 شخص، ومن هنا تحوَّلت القُرى الزراعيّة الصغيرة إلى مدينة، ثمّ أصبحت مركزاً للأنشطة التجاريّة، وظهرت فيها الطبقات الاجتماعيّة، والسلطة السياسيّة.[٤]

أهميّة ظهور المُدن

كانت الحياة قديماً محفوفةً بالمصاعب والمخاطر، وعندما تجمّع الناس في مُستوطناتٍ بشريّة، شعروا بالأمان الماديّ، وبالاستمراريّة الاجتماعيّة؛ ممّا جعلهم يقطُنون معاً، ويُنشئون مجتمع المدينة، وقد جَذَبت المُدن المزيد من الناس إليها؛ ممّا شكّل قوّةً لها، وحمايةً من الهجمات البربريّة على التجمُّعات السكّانية، وعندما سكن الناس في المُدن، استطاعوا أن يُقاوِموا ظروف البيئة القاسية، كنُدرة المياه، وشحّ الأمطار، فحرصوا على تجميع مياه الأمطار في السدود والآبار؛ لاستخدامها لاحقاً، ومع ظهور المُدن، ظهرت الطبقات الاجتماعيّة، وظهر الدِّين، ونشأت العديد من الأعمال التي يستطيع الإنسان ممارستها، كما ساعدت المُدن على تطوُّر الجنس البشريّ، فظهر فنّ العمارة، والهندسة المدنيّة ، والكتابة ، والأدب، والنحت، والفنون، والموسيقى، والتعليم، والرياضيات، والقانون، والكثير من الاختراعات والاكتشافات الجديدة.[٥]

المراجع

  1. Eric Edwin Lampard (20-9-2017), “City”، www.britannica.com, Retrieved 3-7-2018. Edited.
  2. محمد عيد (2015)، المعايير التخطيطية للمدينة بين الأصالة والمعاصرة، غزّة : الجامعة الإسلاميّة ، صفحة 20،21. بتصرّف.
  3. Benjamin Elisha Sawe (25-4-2017), “The World’s Oldest Cities”، www.worldatlas.com, Retrieved 5-7-2018. Edited.
  4. Janice Ridenour , World’s Early People, USA: Houghton, Mifflin Company, Page 12،14،16. Edited.
  5. Joshua J. Mark (5-4-2014), “The Ancient City”، www.ancient.eu, Retrieved 5-7-2018. Edited.