تقضى الصبا إلا تلوم راحل – الشاعر البحتري

تَقَضّى الصّبَا، إلاّ تَلَوّمَ رَاحِلِ،
وَأغنى المَشيبُ عَنْ مَلامِ العَوَاذِلِ
وَتأبَى صُروفُ الدّهرِ، سوداً شخوصُها،
على البِيضِ أنْ يحظَينَ منّي بطائِلِ
يُحَاوِلْنَ مِنِّي صَبْوَةً، وَإخالُني
على شُغُلٍ، ممّا يُحاوِلنَ، شاغِلِ
رَميُّ رَزَايا صَائِباتٍ، كأنّني
لِمَا أشتَكي مِنْهَا رَميُّ جَنَادِلِ
أعُدُّ أجَلَّ النّائِبَاتِ مَجِيعََةً،
وُفُورَ الرّزَايا، وَانثِلامَ الأماثِلِ
أعَنْ دُوَلٍ في العُصْبَتَينِ تَعَاقَبَتْ،
فَمَا نَقَلَ الحلاتِ نَقْلَ التّداوُلِ
وَلَوْلا اهتِمامي بالعُلا وَانعِكاسِها،
لمَا ارْتَعْتُ ذُعْراً مِنْ تَعَلّي الأسافلِ
أمَا قَائِلٌ للشّاهِ، وَالشّاهُ غُرَّةٌ
مُخبِّرَةٌ عَنْ مُلْكِ غَرْشٍ وَكابُلِ
أطِلْ جَفوَةَ الدّنيا وَتَهوِينَ شأنِها،
فَما العاقِلُ المَغرُورُ مِنهَا بِعَاقِلِ
يُرَجّي الخُلُودَ مَعشَرٌ ضَلّ سَعْيُهُمْ،
وَدونَ الذي يَرْجُونَ غَوْلُ الغَوائلِ
وَلَيسَ الأماني في البَقاءِ، وَإنْ مضَتْ
بها عَادَةٌ، إلاّ أحاديثُ بَاطِلِ
إذا ما حَرِيزُ القَوْمِ باتَ، وَمَا لَهُ
مِنَ الله وَاقٍ، فَهْوَ بَادي المَقاتِلِ
وَما المُفلِتونَ، أجملَ الدّهرُ فيهِمِ،
بأكثَرَ مِنْ أعدادِ مَنْ في الحَبائلِ
يُسَارُ بِنَا قَصْدَ المَنُونِ، وَإنّنَا
لَنَشْعَفُ أحْيَاناً بِطَيّ المَرَاحِلِ
عِجَالاً مِنَ الدّنْيَا بأسرَعِ سَعْيِنَا
إلى آجِلٍ مِنْهَا، شَبيهٍ بِعَاجِلِ
أوَاخِرُ مِنْ عَيشٍ، إذا ما امتَحَنتَها
تأمّلْتَ أمْثَالاً لهَا في الأوَائِلِ
وَما عامُكَ المَاضِي، وَإن أفرَطتْ بهِ
عَجائِبُهُ، إلاّ أخُو عامِ قَابِلِ
غَفِلْنَا عَنِ الأيّامِ أطوَعَ غَفلَةٍ،
وَما خَوْنُهَا المَخشِيُّ عَنّا بِغافِلِ
تَغَلْغَلَ رُوّادُ الفَنَاءِ، وَنَقّبَتْ
دَوَاعي المَنُونِ عَن جَوَادٍ وَباخِلِ
وَما فَدَحَتْنَا نَكْبَةٌ، كافِتقادِنَا
أبَا الفَضْلِ نَجلَ الأكرَمينَ الأفاضِلِ
شَبَبْنَا لَهُ نَارَ الجَوَى، وَجَرَتْ لَنا
عَلَيْهِ أساكيبُ الدّموعِ الهَوَامِلِ
وَلمْ نُعْطِهِ حَقّ الغَرَامِ، وَلم نكُنْ
لنَبْلُغَ مَفْرُوضَ الأسَى بالنّوَافِلِ
وَلِيُّ هُدَى سَفْرٍ إلى المَجْدِ سَائِرٍ،
وَقائدُ زَحْفٍ، لِلْخُطُوبِ مُقَاتِلِ
يُؤمَّلُ للخَيرِ الكَثيرِ، إذا نَبَتْ
خَلائِقُ أصْحَابِ الخُيُورِ القَلائِلِ
متى اشتَبَهوا مَرْأًى على العَينِ أعرَبَتْ
شَمائِلُ مِنْ خِرْقٍ، غَرِيبِ الشّمائلِ
إذا طَلَعَتْ منهُ شَذاةٌ على العِدَى
أرَتْ أنّ بُغْثَ الطّيرِ صَيدُ الأجادِلِ
وَيَكْفي مِنَ الرّمْحِ المُبِرّ بِطُولِهِ
بَلاغُ الحِمامِ، مِن سِنانٍ وَعامِلِ
زَعيمُ بَني ميكالَ، حَيثُ تَكامَلوا،
وَكانَ ابتِداءَ النّقصِ فَرْطُ التّكاملِ
أخُو إخوَةٍ، ما كان محْمودُ سَعيهمْ
بِوَانٍ عنِ الحُسنى، وَلا بمُوَاكِلِ
بَني أحْوِذِِيٍّ، يَغمُرُ السّيفَ وافِياً
ببَسطَتِه، وَالسّيفُ وَافي الحَمائِلِ
تَضِيقُ الدّرُوعُ التُّبّعيّاتُ مِنْهُمُ،
على كلّ رَحبِ البَاعِ، سَبطِ الأناملِ
عَرَاعِرُ قوْمٍ، يَسكنُ الثّغرُ، إن مَشوْا
عَلى أرْضِهِ، وَالثّغْرُ جَمُّ الزّلازِلِ
فَكَمْ فيهِمِ مِنْ مُنْعِمٍ مُتَطَوِّلٍ
بآلائِهِ، أوْ مُشرِفٍ مُتَطَاوِلِ
إذا سُئِلُوا جاءَتْ سُيُولُ أكُفّهمْ،
نَطائرَ جُمّاتِ التّلاعِ السّوَائِلِ
يَقولونَ مَنْ أُرْضِي، وَلا تَرْض قَائلاً
إذا لم يَكُنْ في القَوْمِ أوّلَ فاعِلِ
خَليقُونَ، سُرّوا أنْ تُلينَ أكُفُّهُمْ
عَرَائِكَ أحداثِ الزّمَانِ الجَلائِلِ
وَمَا زَالَ لَحْظُ الرّاغِبينَ مُعَلَّقاً
إلى قَمَرٍ مِنهُمْ، رَفيعِ المَنَازِلِ
أبَا غانِمٍ! لا تَبرَحَنْ غُنْمَ آمِلٍ،
تَأَمَّل نُجْحاً، أوْ مُعَوَّلَ عَائِلِ
دَعَوْتُ بِكَ َالحاجاتِ أمسِ، فطَبّقَتْ
مَضَارِبُ مأثُورِ الغِرَارَينِ قَاصِلِ
وَلَوْ تُنصِفُ الأقدارُ كانَتْ مَطالبي
إلَيكَ، وَكَانَ الآخَرُونَ وَسَائِلي