قصة طالوت وجالوت

حالُ بني إسرائيلَ بعد الأنبياء

تدورُ أحداثُ قصَّة طالوتَ وجالوتَ حولَ ظروفِ بني إسرائيلَ وأحوالِهم؛ لمَّا انقَطَعَ فيهم نسلُ الأنبياءِ، فأبدَلَهم اللهُ بحُكم الأنبياءِ حكمَ المُلوكِ، فسلّط عليهم ملوكاً جبَّارينَ، أذاقوهُم من الظُّلمِ والجورِ ما أرهَقَهم، فسَفَكوا دِماءَهم، وبَدَّلوا أحوالَهم، حتَّى تَكالَبَ عليهِم غيرَ المُلوكِ أعداؤُهم، فظَهرَ الأعداءُ عَليهم فأوغلوا فيهم، وكانوا من قَبلُ لا يَقدِرونَ عليهِم؛ إذ كانَ فيهم تابوتُ الميثاقِ الذي كانَ في قُبَّة الزَّمان، فَكانوا إذا قاتلوا الأعداءَ هَزَموهم وانتصَروا عليهِم؛ وقد جعل الله في التَّابوتِ من السَّكينةِ والبَقيَّةِ ممّا تَرَكَ آلُ موسى وآلُ هارونَ ما يُعظِّمُ أَمرَهُ، ويُشرِّفُ قَدرَهُ، ويُظهِرُ البَرَكةَ فيه، وكانَ ضياعُ التَّابوتِ مِنهم سبباً في تخلُّفِهم وانكِسارِهم، وإنَّما كانَ ذلكَ فيهم جزاءَ ما قَتلوا من الأنبياءِ، وانحرَفوا عن دَعوتِهم ومَسارِهم، فلمَّا كانَت بعض حروبِهم مع أهلِ غزَّة وعسقَلانَ هُزِموا، وأظهَرَ اللهُ أعداءَهم عليهِم، فانتَزعوا منهم التَّابوت، حتّى إذا عَلِمَ مَلِكُ زَمانِهم من بني إسرائيلَ مالَت عُنُقُهُ كَمَداً فمات، فأصبَحوا شتاتاً مثل الغَنَمِ بِلا راعٍ، فسلَّطَ اللهُ عليهِم أعداءَهم، فكانَ هذا حالهم طوال أربَعمئةٍ وسِتّينَ سنةً، حتَّى بَعثَ الله فيهم شَمويلَ بن بالي نبيّاً.[١]

بَعثُ النَّبيّ شمويل بن بالي

لمَّا ضَعُفَ حالُ بني إسرائيلَ وطالَ بلاؤُهم، وذُلُّوا بعدَ عِزَّةٍ، فَخسروا التَّابوتَ وما بهِ من بَركةٍ، وأذلَّتهمُ المُلوكُ من غَيرِهم، فخرَّبوا دِيارَهم، وغَنِموا أموالَهم، وقَتلوا رِجالَهم، وسَبَوْا نِساءَهم، وفُرِضَت عليهِمُ الجِزيةُ حتَّى جَزِعوا، رَغبوا إلى الله عزَّ وجلَّ يستنصرونَهُ بنبيٍّ يُقاتِلونَ معه، وكانَ قِتالُ العَمالِقةِ وفيهِم مَلِكُهم جالوت أشدَّ ما يَجِدونَ من هوانٍ، وليسَ لبني إسرائيلَ قبيلٌ لِجالوتَ ولا كُفء، فسألوا الله أن يُرسِلَ فيهم نبيّاً يُقاتِلونَ مَعَه، وما مِن أثَرِ الأنبياءِ وأسباطِهم حينَها سوى جنين بِبطنِ أمِّه؛ ذلكَ أنَّهم عُرِفوا بقتلِ الأنبياءِ من قبل، فلمَّا كانَ ما في بَطنِ المرأةِ أمَلَهم وتمنّيهِم، جَعلوها حَبيسَةَ بيتٍ تَلِدُ فيهِ؛ خشيةَ أن تَلِدَ جاريةً فتُبدِلهاغلاماً؛ لِما ترى من حاجةِ بني إسرائيلَ ورَغبَتِهم في وَلَدِها واستِبشارِهم بنبوَّتِه، فتضرَّعتِ المرأةُ لربِّها أن تَلِدَ غُلاماً، فرَزَقها الله ما تمنَّت، فأسمَت غُلامَها سَمعون؛ إذ سَمِعَ الله دُعاءَها، فجَعَلَهُ غُلاماً.[٢]

أرسَلت المرأة غُلامَها إلى بيتِ المَقدِسِ ليَتعلَّم التَّوراة، فكانَ في كفالةٍ شيخٍ من علماء بني إسرائيلَ تبنَّاهُ، فلم يكن يأمَن عليهِ غيرَه، حتَّى إذا كَبُرَ الغُلامُ وبَلَغ من رُشدِهِ ما يَحمِلُ أمرَ النُّبوَّةِ، جاءهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ وهو نائمٌ إلى جوارِ شيخه، فناداهُ جبريلُ بِلحنِ الشيخ: يا شَمُوِيل، فَفَزِعَ الغُلامُ إلى شيخِهِ يَنظُرُ حاجَتهُ، فقال: دَعوتَني أبتاه؟ فَكَرِه الشَّيخُ أن يَقول لا؛ فيفزَعَ الغُلامُ، فأرجَعهُ لِيَنام، ثمَّ ناداهُ جبريلُ ثانيةً، فلبَّى الغلام: دَعوتَني أبتاه؟ فأرجَعهُ الشَّيخُ إلى نومِهِ، وقالَ: إن دعوتُكَ الثَّالثة فلا تُجِبْني، فَظَهر له جبريلُ في الثَّالثةِ، فقال: اذهب إلى قومِكَ فَبلِّغهم رِسالةَ ربِّك، فقد بَعثَكَ اللهُ فيهم نبيّاً، فلمَّا دعاهُم أعرَضوا، فَكذَّبوه، وقالوا: إنَّما استَعجلتَ النُّبوَّة.[٢]

تنصيبُ طالوتَ ملكاً

طَلَبَ بنو إسرائيلَ من نبيِّ الله شمويلَ بن بالي آيةً تُعزِّزُ نُبوَّتَهُ؛ ليُصدِّقوهُ بِها، فقال: عَسى إن كُتِبَ عليكُم القِتالُ وفيكُم ملكٌ إلَّا تُقاتِلوا، وتفوا بِما التزَمتم، فقالوا: وما لنا ألّا نُقاتِلَ في سَبيلِ اللهِ، وقد أُخرِجنا من دِيارِنا؟ فأرسَلَ اللهُ لهَ عصاً يَكونُ المَلِكُ بِطولِها، فتَقايسوها حتَّى لم يَكن أَحدهم بِقياسِها، وكانَ طالوتُ سقَّاء يستقي الماءَ على حِمارٍ له، فضلَّ حِمارُهُ، فَجعَلَ يَبحثُ عنهُ ويَلتَمِسُ أثرَه حتَّى وَصَلَهم، فلمَّا رأَوْهُ دَعوهُ لِقياسِ العَصا، فكانَ مِثلَها، فاختارَهُ شَمويلُ ليكونَ عليهم مَلِكاً، فأنكروا عليهِ ذلكَ؛ إذ ليسَ فيهِ نَسَبُ المُلوكِ ولا مالهم، فعزَّزَهُ اللهُ بآيةٍ تُثبتُ مُلكَه؛ إذ جَعلَ التَّابوتَ بينَ يَدي طالوتَ، أو قيلَ في بيتِه، وفيهِ سكينةٌ من الله وبقيَّةٌ ممّا تَرَكَ آلُ موسى وآلُ هارون، فلمَّا كانت الآيةُ، صَدَّق بنو إسرائيلَ نُبوَّةَ شَمويلَ ومُلكَ طالوتَ، فاتَّبعوهم.[٣][٤]

نَصرُ بني إسرائيل ومقتل جالوت

خَرَجَ المَلك طالوت لِقِتالِ العمالِقةِ بجيشٍ يَبلُغُ ثمانينَ ألفَ مُقاتلٍ، خَرجوا معهُ كارِهين، فقالَ طالوت: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)،[٥] فلمَّا بَلَغَ نَهرَ الأردنّ وهو نهرٌ بينَ الأردنّ وفلسطينَ عَذبُ المِياه، كانَ النَّهرُ مُبتَلاهم؛ ذلكَ أنَّهم شكَوا العَطَش، أو قيل: إنَّهم طَلبوا أن يَفصِلَ الله بينَهم وبينَ جالوتَ بِنهرٍ، فكانَ ابتِلاؤهم بالنَّهرِ ألَّا يشربوا من مائِه، إلاَّ من اغتَرَفَ الماءَ بكفِّهِ فمعفيٌّ عنه، فجعلَ عامَّتُهم يشربونَ الماءَ ولا يروون، أمَّا علماؤهم ومن آمنَ فكانوا يغترفونَ الغرفةَ فيروون، فثَبَت مع طالوتَ أربعةُ آلافِ مُقاتلٍ، ورَجعَ عنه ستّةٌ وسبعونَ ألفاً، حتَّى إذا عَبرَ طالوتُ النَّهر بمن مَعه، قالوا: (قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)،[٥]فلم يبقَ معَ طالوت سوى ثلاثمئةِ مُقاتِلٍ وبِضع عشراتٍ منهم، وفيهم أبو داودَ عليهِ السَّلامُ ومَعهُ من أبنائِهِ ثلاثة عَشَر، أصغَرُهم داود، وكانَ الله قَد أجرى على يدِيه مُعجِزاتٍ أو كَراماتٍ رغمَ سنِّه، ومن ذلِكَ تَسبيحُ الجِبالِ، وتَسديدُ قذافتِه، فلمَّا كانَ القِتالُ واصطفَّ الجيشان، رَمى داودُ جالوتَ بِقذافَتِه، فأصابهُ بينَ عينيهِ، فأسقَطَه قتيلاً، فَلم يَزل حَجرُ داودَ يَقتُل كلَّ من أصابَهُ، ينفَذُ من الجندِ إلى غيرِهم، حتَّى هُزِمَ عَسكَرُ جالوت بإذن الله تعالى، فأنفَذَ طالوتُ عَهداً كانَ قَد قَطعهُ، فأنكَحَ ابنتَه داودَ قاتل جالوت، ثمَّ أجرى خاتَمَهُ في مُلكِه، فمالَ النَّاسُ إلى داود وأحبُّوه.[٦][٧][٨]

المراجع

  1. إسماعيل بن كثير، البداية والنِّهاية، صفحة: 5، جزء 2.
  2. ^ أ ب محمد بن جرير الطَّبري، تاريخ الرُّسل والمُلوك، صفحة: 466-469.
  3. أبو الفداء بن كثير، تفسير ابن كثير ، صفحة: 508، جزء 1.
  4. محمد بن جرير الطَّبري، تاريخ الطَّبري، صفحة: 468، جزء 1.
  5. ^ أ ب سورة البقرة، آية: 249.
  6. أبو الحسن ابن الأثير، الكامل في التاريخ، صفحة: 191-192، جزء 1.
  7. أبو الفداء بن كثير، تفسير ابن كثير، صفحة: 508-509، جزء 1.
  8. محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تفسير آي القرآن، صفحة: 481-509، جزء 4.