تلك الديار ودارسات طلولها – الشاعر البحتري
تلكَ الدّيارُ، وَدارِساتُ طُلُولِها
طَوْعُ الخُطُوبِ دَقيقُها، وَجَليلُها
مَتْرُوكَةٌ للرّيحِ، بَيْنَ جَنُوبِهَا
وَشَمالِها وَدَبُورِها وَقَبُولِها
وَمِنَ الجَهَالَةِ أنْ تُعَنِّفَ باكِياً،
وَقَفَ الغَرَامُ بهِ عَلَى مَجْهُولِهَا
إنّ الدّمُوعَ هي الصّبَابَةُ، فاطّرِحْ
بَعضَ الصّبَابَةِ تَستَرِحْ بِهُمُولِهَا
وَلَقَدْ تَعَسّفْتُ الأُمُورَ، وَصَاحبي
حَزْمٌ يَلُفُّ حُزُونَهَا بسُهُولِهَا
وَنَشَرْتُ أرْدِيَةَ الدّجَى، وَطَوَيْتُها،
والعِيسُ بَينَ وَجِيفِها وَذَميلِهَا
شَامَتْ بُرُوقَ سَحَابَةٍ قُرَشيّةٍ،
غِرِقتْ صُرُوفُ الدّهرِ بينَ سُيُولِهَا
وَفَتًى، يَمُدُّ يَداً إلى نَيْلِ العُلاَ،
فَكَأنّ مِصْرَ تُمِدُّهُ مِنْ نَيْلِهَا
لا تَقْرُبُ الفَحْشَاءُ نادِيَهُ، وَلا
يأتي مِنَ الأخْلاقِ غَيرَ جَمِيلِهَا
وإذا الأُمُورُ تَصَعّبَتْ شُبُهَاتُهَا،
سَبَقَتْ رِيَاضَتُهُ إلى تَذْلِيلِها
عَرَفَ المَصَادِرَ، قَبلَ حينِ وُرُودِهَا،
وَمَوَاقِعَ البَدَهاتِ، قَبلَ حُلُولِها
أفْنَى أبُو الحَسَنِ المَحَاسِنَ، كُلَّها
بخَلاَئِقٍ للقَطْرِ بَعْضُ شُكُولِهَا
إنّ المَحَاسِنَ، يابْنَ عَمّ مُحَمّدٍ،
وَجَدَتْ فَعَالَكَ وَاقِفاً بِسَبِيلِهَا
وإذا قُرَيْشٌ فاضَلَتْكَ فَضَلْتَهَا
بأبي خَلاَئِفِهَا، وَعَمِّ رَسُولِهَا
وَكَوَاكِبٍ أشْرَقْنَ مِنْ أبْنَائِهِ،
لَوْلاَكَ قَدْ أفَلَ النّدَى بأُفُولِها
عَبدُ المَلِيكِ، وَصَالِحٌ، وَعَلِيُّهُ،
وأبُوهُ خَيرُ شَبَابِهَا وَكُهُولِهَا
رَفَعَتْهُمُ الآيَاتُ في تَنْزِيلِهَا،
وَقَضَتْ لَهُمْ بالفَضْلِ في تأوِيلِهَا
أخَذُوا النّبُوّة والخِلاَفَةَ، فاْنثَنَوْا
بالمَكْرُمَاتِ كَثيرِهَا وَقَلِيلِها
لَوْ سَارَتِ الأيّامُ في مَسعَاتِهَمْ
لِتَنَالَهَا، لَتَقَطّعَتْ في طُولِهَا
وَهْيَ المَآثِرُ لَيْسَ يَبْني مِثْلَهَا
بَانٍ، وَلاَ يَسْمُو إلى تَحْوِيلِهَا
يتَحَيّرُ الشّعَرَاءُ في تألِيفِهَا،
وَيُقَصّرُ العُظَمَاءُ عَنْ تأثِيلِهَا
ولأنْتَ غَالِبُ غَالِبٍ، يَوْمَ النّدَى،
كَرَماً، وَوَاهِبُ رِفْدِهَا وَجَزِيلِهَا
وَجَوادُها ابنُ جوادِهَا وَشَرِيفُها ابنُ شَرِيـ
ـفِها، وَنَبِيلُها ابنُ نَبِيلِهَا
وإذا انشَعَبْتَ أخذتَ خَيرَ فُرُوعِها،
وإذا رَجَعْتَ أخَذْتَ خَيرَ أُصُولِهَا