أكنت معنفي يوم الرحيل – الشاعر البحتري
أكنتَ مُعَنّفي، يوْمَ الرّحيلِ،
وَقد لجّتْ دُموعي في الهُمُولِ
عَشِيّةَ لا الفِرَاقُ أفَاءَ عَزْمِي
إليّ، وَلا اللّقاءُ شَفَى غَليلي
دَنَتْ عندَ الوَداع، لوَشْكِ بُعدٍ،
دُنُوَّ الشّمسِ تَجنَحُ للأصيلِ
وَصَدّتْ، لا الوِصَالُ لَهَا بِقَصْدٍ،
وَلا الإسعَافُ مِنْهَا بالمُخيلِ
تُليمُ إسَاءَةً، وأُلامُ حُبّاً،
وَبَعْضُ اللّوْمِ يُغْرِي بالخَليلِ
طَرِبْتُ بذي الأرَاكِ، وَشَوّقَتني
طَوَالِعُ مِنْ سَنَا بَرْقٍ كَليلِ
وَذَكّرَنِيكِ، والذّكْرَى عَنَاءٌ،
َشبايِهُ فيكِ، بَيّنَةُ الشُّكُولِ
نَسيمُ الرّوْضِ في رِيحٍ شَمَالٍ،
وَصَوْبُ المُزْنِ في رَاحٍ شَمُولِ
عَذيري منْ عَذُولٍ فيكَ يَلحي
عَليّ، ألا عَذيرٌ مِنْ عَذُولِ
تَجَرّمَتِ السّنُونَ، ولا سَبِيلٌ
إلَيكِ، وأنتِ واضِحَةُ السّبيلِ
وَقد حاوَلْتُ أنْ تَخِدَ المَطَايَا
إلى حَيٍّ، على حَلَبٍ، حُلولِ
وَلَوْ أنّي مَلَكْتُ إليكِ عَزْمي،
وَصَلْتُ النّصّ مِنْهَا بالذَّمِيلِ
فأوْلى للمَهاري مِنْ فَلاةٍ
عَرِيضٍ جَوزُها، وَسُرًى طَوِيلِ
زَكَتْ بالفَتْحِ أُحدانُ المَساعي،
وأُوْضِحَ دارِسُ الكَرَمِ المُحيلِ
بمُنقَطِعِ القَرِينِ، إذا تَرَقّى
ذُرَى العَلْيَاءِ، مُفْتَقَدِ العَديلِ
تُوَلّيهِ، إذا انتَسَبَتْ قُرَيْشٌ،
عُلُوَّ البَيْتِ مِنْهَا، والقَبِيلِ
وَفَضْلاً بالخلائِفِ باتَ يُعزَى
إلى فَضْلِ الخَلائِفِ بالرّسُولِ
رحيبُ البَاعِ، يَرْفَعُ مَنْكِبَاهُ
فُضُولَ الدّرْعِ عَنْهُ، والشّليلِ
وَيَحْكُمُ في ذَخَائِرِهِ نَدَاهُ،
كَما حَكَمَ العَزِيزُ على الذّليلِ
أخٌ في للمَكْرُمَاتِ يُعَدُّ فيها،
لَهُ فَضلُ الشّقِيقِ على الحَمِيلِ
خَلائقُ كالغُيُوثِ، تَفِيضُ مَنْها
مَوَاهِبُ، مِثلُ جَمّاتِ السّيُولِ
وَوَجْهٌ، رَقّ مَاءُ الجُودِ فيهُ،
على العِرْنِينِ، والخَدِّ الأسيلِ
يُرِيكَ تألّقُ المَعْرُوفِ فِيهِ
شُعَاعَ الشمسِ في السّيفِ الصّقِيلِ
وَلَمّا اعتَلّ أصْبَحَتِ المَعَالِي
مُحَبَّسَةً عَلَى خَطَرٍ مَهُولِ
فَكَائِنْ فُضَّ مِنْ دَمْعٍ غَزِيرٍ
وأُضْرِمَ مِنْ جَوَى كَمَدٍ دَخِيلِ
ألَمْ تَرَ للنّوَائِبِ كَيفَ تَسْمُو
إلى أهلِ النّوَافِلِ، والفُضُولِ
وَكَيْفَ تَرُومُ ذا الفَضْلِ المُرجَّى،
وَتَخْطُو صاحَبَ القَدْرِ الضّئِيلِ
وَمَا تَنْفَكُّ أحداثُ اللّيالي
تَمِيلُ على النّبَاهَةِ للخُمُولِ
فَلَوْ أنّ الحَوَادِثَ طاوَعَتْنِي،
وأعطَتني صُرُوفُ الدّهْرِ سُولي
وَقَتْ نَفْسَ الجَوَادِ، مِنَ المَنَايا
وَمَحْذُورَاتِهَا، نَفْسُ البَخِيلِ
كَفَاكَ الله ما تَخْشَى، وَغَطّى
عَلَيْكَ بِظِلّ نِعْمَتِهِ الظّليلِ
فَلَمْ أرَ مثلَ عِلّتِكَ استَفَاضَتْ
بِإعْلانِ الصَّبَابَةِ والعَوِيلِ
وَكمْ بدأتْ، وَثَنّتْ مِنْ مَبِيتٍ
على مَضَضٍ، وَجَافَتْ من مَقِيلِ
وَقد كانَ الصّحيحُ أشَدّ شَكْوَىَ
غَداتئِذٍ، مِنَ الدّنِفِ العَلِيلِ
مُحَاذَرَةً عَلى الفَضْلِ المُرَجّى،
وإشْفَاقاً عَلى المَجْدِ الأثِيلِ
وَعِلْماً أنّهُمْ يَرِدُونَ بَحْراً
بِجُودِكَ، غَيْرَ مَوْجُودِ البَدِيلِ
وَلَوْ كَانَ الذي رَهِبُوا وَخَافُوا
إذا ذَهَبَ النّوَالُ مِنَ المُنِيلِ
إذاً لَغَدا السّماحُ بلا حَليفٍ
لَهُ، وَجَرَى الغَمَامُ بلا رَسِيلِ
دِفَاعُ الله عَنْكَ أقَرّ مِنّا
قُلُوباً جِدّ طَائِشَةِ العُقُولِ
وَصُنْعُ الله فِيكَ أزَالَ عَنّا
تَرَجُّحَ ذلكَ الحَدَثِ الجَليلِ
وقَاكَ لغَيْبِكَ المأمُونِ سِرّاً،
وَظَاهِرِ فِعْلِكَ الحَسَنِ الجَمِيلِ
وَمَا تَكْفِيهِ مِنْ خَطْبٍ عَظِيمٍ،
وَمَا تُوليهِ مِن نَيْلٍ جَزِيلِ
فَرُحْتَ كأنّكَ القِدْحُ المُعَلّى،
تَلَقّاهُ الرّقيبُ مِنَ المُجِيلِ
ليَهْنِ المُسْلِمِينَ، بكُلّ ثَغْرٍ،
سَلاَمَةُ رأيِكَ الثّبْتِ الأصيلِ
وَصِحّتُكَ، التي قَامَتْ لَدَيْهِمْ
مَقَامَ الفَوْزِ بالعُمْرِ الطّوِيلِ
أيَادي الله مَا عُوفيتَ وَافٍ
سَنَا الأوْضَاحِ مِنْهَا وَالحُجُولِ
تُعَافَى في الكَثِيرِ، وأنتَ بَاقٍ
لَنَا أبَداً، وَتُوعَظُ بالقَلِيلِ