بأي أسى تثنى الدموع الهوامل – الشاعر البحتري
بأيّ أسًى تُثْنَى الدّمُوعُ الهَوَامِلُ،
وَيُرْجَى زِيَالٌ مِنْ جَوًى لا يُزَايِلُ
دَعِ المَوْتَ يَغْتَلْ مَنْ أرَادَ، فإنّهُ
ثوَى اليوْمَ من تُخشَى علَيهِ الغَوَائلُ
وَلمْ يَبقَ مَرْهُوبٌ تُخافُ شَذاتُهُ،
وَلا مُفضِلٌ تُرْجَى لَدَيْهِ الفَوَاضِلُ
إذا عَاجِلُ الدّنْيَا ألَمّ بِمُفْرِحٍ،
فمِنْ خَلفِهِ فَجعٌ، سيَتلوهُ آجلُ
وَكانَتْ حَياةُ الحَيّ سُوقاً إلى الرّدى،
وَأيّامُهُ، دونَ المَمَاتِ، مَرَاحِلُ
وَما لَبْثُ مَنْ يَغدو، وَفي كلّ لحظةٍ
لَهُ أجَلٌ، في مُدّةِ العمرِ، قاتِلُ
وَللمَرْءِ يَوْمٌ، لا مَحَالَةَ، مَا لَهُ
غَدٌ، وَسطَ عامٍ ما لهُ، الدّهرَ، قابلُ
كَفَانَا اعْتِرَافاً بالفَنَاءِ وَرِقْبَةً
لمَكْرُوهِهِ، أنْ لَيسَ للخُلدِ آمِلُ
سَلا خِفْيَةً عَن صَاحبِ الجَيشِ إنّه
أقَامَ بظَهْرِ الَكْرخِِ، وَالجَيشُ رَاحِلُ
أعاقَتْهُ عَن ذاكَ العَوَائقُ، أمْ عدتْ
علَيهِ العِدى، أمْ أعلَقَتهُ الحَبائلُ؟
فكَمْ جَرَزٍ من أرْضِ جَرْزَانَ، فاتَها
تَتابُعُ سَحٍّ مِنْ يَدَيْهِ، وَوَابِلُ
تَفَرّغَتِ الأعْداءُ مِنْهُ، وَرُبّما
غَدا وَهوَ شُغلٌ للمُعادينَ، شاغلُ
لَئِنْ زُلزِلَ الثّغْرَانِ، عندَ ذهابِهِ،
لقَد سكَنَتْ، بالنّاطَلوقِ، الزّلازِلُ
فَلا ظَفِرَتْ تِلكَ الغَزَاةُ بمَغنَمٍ،
وَلا قَفَلَتْ، بالنُّجحِ، تلكَ القَوَافِلُ
عَجِبْتُ لهَذا الدّهرِ أفْنَى مُحَمّداً،
وَكانَ الذي يَسطو بهِ، وَيُصَاوِلُ
مَضَى، فمَضَى مَجدٌ تَليدٌ وَسُؤددٌ،
وَأوْدَى فأوْدَى منهُ بأسٌ وَنَائِلُ
وَكانَ سِرَاجَ الأرْضِ، فالأرْضُ مظلمٌ
قُرَاها، وَحَليَ الدّهرِ، فالدّهرُ عاطلُ
ستَبكيهِ عَينٌ لا ترَى الجُودَ بَعدَهُ،
إذا فاضَ منها هامِلٌ عَادَ هَامِلُ
وَتَعلَمُ جُرْدُ الخَيلِ أن ليسَ رَاكبٌ
سِوَاهُ، وَسُمرُ الخَطّ أن ليسَ حامِلُ
فتًى كانَ يأبَى قَدْرُهُ أن يُرَى لَهُ
نَظيرٌ مُسَاوٍ، أوْ شَبيهٌ مُشَاكِلُ
فتًى أقفَرَتْ منهُ المَعالي، وَلمْ تكُنْ
لتُقْفِرَ مِمّنْ بَانَ، إلاّ المَنَازِلُ
وَثَاوٍ، بَكَتْهُ المَكْرُمَاتُ، وَإنّما
تُبَكّي على الثّاوِي النّساءُ الثّوَاكِلُ
سَقَى الله قَبْراً لَوْ يَشَاءُ تُرَابُهُ،
إذاً سُقِيَتْ مِنْهُ الغُيُومُُ الهَوَاطِلُ
نَأى رَبُّهُ عَنَّا، وَأعرَضَ دونَهُ،
على كُرْهِنا، عَرْضُ الثّرَى وَالجَنادِلُ
حيا الأرْضِ ألقتْ فوْقَهُ الأرْضُ ثِقلَها،
وَهَوْلُ الأعادي حَوْلَهُ التُّرْبُ هائلُ
أمَا، وَأبي كَهْلانَ، يَوْمَ مُصَابِهِ،
لَقَدْ أُثْقِلَتْ بالرُّزْءِ منها الكَوَاهلُ
رَأوْا شَمسَهُمْ في يوْمهمْ، وَهيَ ظُلمة،
وَبَدْرَهُمُ في لَيلِهمْ، وَهوَ آفِلُ
فَشامُوا سُيُوفاً، ما لَهُنّ مَضَارِبٌ،
وَألْفَوْا رِمَاحاً، ما لَهُنّ عَوَامِلُ
فقَدْناكَ فِقدانَ الحَياةِ، وَأقبَلَتْ
تُلاحِظُنا، خَزْراً إلَينا، القَبائِلُ
وَلوْلا ابنُكَ المَرْجوُّ فينا لأصْبَحَتْ
أعَالي الرُّبَى مِنها، وَهُنّ أسَافِلُ
رَدَدْنا إلَيْهِ الأمْرَ طَوْعاً، وَلمْ نَقلْ
لَهُ في الذي يأتيهِ: مَا أنتَ فَاعِلُ
بهِ جُمعَ الشّملُ الشّتيتُ، وَفُرّقَتْ
عَباديدَ في القَوْمِ، اللُّهَى وَالنّوَافلُ
تَخَطّى إلَيهِ الرُّزْءُ مِنْ كلّ وِجهَةٍ
حَرِيمَ نَدًى لا تَخْتَطيهِ العَوَاذِلُ
وَمَن يرَ جَدوَى يُوسُفَ بنِ محَمّدٍ
يرَ البَحرَ، لمْ يَجمَعْ نَواجيهِ ساحلُ
أغَرُّ، إذا عُدّتْ مَناقبُ فِعْلِهِ،
تَوَهّمْتَ أنّ الحَقّ مِنْهُنّ بَاطِلُ
إذا مَا نَحَا مِنْ مَجلِسِ المُلكِ رُتبةً،
تحَلحَلَ عَنْهَا الأحوَذيُّ الحُلاحلُ
تَطَاطَا الخُدودُ الزُّورُ تحتَ سُكوتِهِ،
وَتَنْتَظِرُ الأسْمَاعُ مَا هُوَ قَائِلُ
وَكَانَ وَرَاءَ المَدْحِ، إذْ هوَ زَائدُ الـ
ـيَدينِ، فكَيفَ الآنَ إذْ هوَ كامِلُ
وَقد حُقّقَتْ فيهِ الظّنونُ وَصُدّقَتْ
على ما حَكَتْ منْ قَبلُ فيهِ الدّلائِلُ
وَلا عَجَبٌ، إنْ رَجّمَ الغَيبَ عالِمٌ،
فقَبلَ الغُيوثِ ما تكونُ المَخايِلُ
وَإنْ جَاءَنَا يَحْكي أباهُ، فلَم تَزَل
لَهُ مِنْ أبيهِ شِيمَةٌ وَشَمَائِلُ
هُما شَرَعٌ في المَكرُماتِ، فَهَذِهِ
أوَاخِرُ أخْلاقٍ، وَتِلْكَ أوَائِلُ