أنظر إلى العلياء كيف تضام – الشاعر البحتري
أُنْظُرْ إلى العَلْيَاءِ كَيفَ تُضَامُ،
وَمَآتِمِ الأحسابِ كَيفَ تُقَامُ
حُطََّتْ سُرُوجُ أبي سَعيدٍ، وَاغتَدتْ
أسيَافُهُ، دُونَ العَدُوّ، تُشَامُ
خَبَرٌ ثَنَى رُكَبَ الرّكابِ، فَلْم يدَعْ
للرّكْبِ وَجْهَ تَرَحّلٍ، فَأقَامُوا
وَرَزِيئَةٍ حَمَلَ الخَليفَةُ شَطرَها
وَالمُسْلِمونَ، وَشَطْرَها الإسْلامُ
مَنْ يَعْتَفي العَافي بهِمّتِهِ، وَمَنْ
يأْوي إلَيْهِ المُعْتِمُ المُعْتَامُ
أينَ السّحابُ الجَوْدُ، وَالقَمَرُ الذي
يَجلُو الدّجَى، وَالضّيغَمُ الضّرْغَامُ
أينَ العَبُوسُ المُشْمَئِزُّ، إذا رَأى
جَنَفاً، وَأينَ الأبْلَجُ البَسّامُ
سَكَنُ العُلا أوْدَى، فهُنّ ثَوَاكلٌ،
وَأبو العُفَاةِ ثَوَى، فَهُمْ أيْتَامُ
وَلّى، وَقَد أوْلَى الوَرَى من جُودِهِ
نِعَماً، يَقُومُ بِشُكْرِهَا الأقْوَامُ
لا تَهْنِىءِ الرّومَ استِرَاحَتُهُمْ، فقدْ
هَدَأُوا بأفْوَاهِ الدّرُوبِ، وَنَامُوا
أمِنوا وَما أمِنُوا الرّدَى، حتى انطوَى،
في التُّرْبِ، ذاكَ الكَرُّ وَالإقْدَامُ
أسَفاً عَلَيْهِ لآسِفٍ بَينَ القَنَا،
أسْوَانَ، تُعْذَلُ خَيْلُهُ وَتُلامُ
وَلمُجْتَدٍ رَجَعَتْ يَداهُ بِلا جَداً،
أعْيَا عَلَيْهِ البَذْلُ وَالإنْعَامُ
يا صَاحبَ الجَدَثِ المُقِيمَ بِمَنْزِلٍ،
مَا للأنِيسِ بِحُجْرَتَيْهِ مَقَامُ
قَبْرٌ، تُكَسَّرُ فَوْقَهُ سُمرُ القَنَا
مِنْ لَوْعَةٍ، وَتُشَقَّقُ الأعْلامُ
مَلآنُ مِنْ كَرَمٍ، فَلَيْس يَضُرُّهُ
مَرُّ السّحابِ عَلَيْهِ، وَهوَ جَهامُ
بي لا بغَيرِي تُرْبَةٌ مَجْفُوّةٌ،
لكَ في ثَرَاهَا رِمّةٌ، وَعِظَامُ
حَالَتْ بكَ الأشْيَاءُ عَنْ حالاتِها،
فالحُزْنُ حِلٌّ، وَالعَزَاءُ حَرَامُ
نَستَقْصِرُ الأكْبَادَ، وَهيَ قَرِيحَةٌ،
وَنَذُمُّ فَيضَ الدّمْعِ، وَهوَ سِجامُ
فعَلَيكَ، يا حِلفَ النّدى، وَعلى النّدى
مِنْ ذاهِبَينِ، تَحِيّةٌ وَسَلامُ
وَبرُغْمِ أنْفي أنْ أرَاكَ مُوَسِّداً
يَدَ هَالِكٍ، وَالشّامِتُونَ قِيَامُ
أوْ أنْ يَبيتَ مُؤمِّلُوكَ بِلَوْعَةٍ،
مُتَمَلْمِلينَ، وَخائِفُوكَ نِيَامُ
كنتَ الحِمامَ على العَدوّ، وَلمْ أخَفْ
مِنْ أنْ يكونَ على الحِمَامِ حِمَامُ
ما كنتُ أحسَبُ أنّ عِزّكَ يَرْتَقى
بالنّائِبَاتِ، وَلا حِمَاكَ يُرَامُ
قَدَرٌ عَدَتْ فيهِ الحَوَادِثُ طَوْرَها،
وَتَجاوَزَتْ أقْدَارَها الأيّامُ
فاذهَبْ كَما ذَهَبَتْ بساطعِ نُورِها
شَمسُ النّهارِ، وَأعقَبَ الإظْلامُ
لا تَبعُدَنّ، وَكَيفَ يَقرُبُ نَازِلٌ
بالغَيبِ، تَفْنَى دونَهُ الأعْوَامُ
وَلَقَدْ كَفَاكَ المَكْرُماتِ مُهَذَّبٌ،
يُرْضِيكَ مِنْهُ النّقْضُ وَالإبْرَامُ
حُزْتَ العُلاَ سَبْقاً، وصَلّى ثَانِياً،
ثُمْ استَوَتْ مِنْ بَعْدِهِ الأقْدَامُ
وَوَرَاءَ غَضْبَةِ يُوسُفَ بنِ مُحَمّدٍ
سَطْوٌ يَفُلُّ السّيفَ وَهْوَ حُسَامُ
رَبُّ الخَلائِقِ لَوْ تَكَلّفَ بَعضَهَا،
لمْ يَستَطِعْها الغَيمُ، وَهوَ رُكامُ
زَوّارُ أرْضِ الخالِعِينَ، إذا غَزَا
رَتَعَتْ، وَرَاءَ رِمَاحِهِ، الأقْلامُ
مُسْتَعْبِدٌ حُرَّ الأُمُورِ، يَقُودُهَا
رَأيٌ لخَطْمِ الصّعْبِ مِنْهُ خِطَامُ
أعْلى العُيُونَ، فَمَا بهِنّ غَضَاضَةٌ،
وَشَفَى الصّدورَ، فَما بهِنّ سَقَامُ