أقصر حميد لا عزاء لمغرم – الشاعر البحتري
أقَصْرَ حُمَيدٍ! لا عَزَاءَ لمَغْرَمِ،
وَلا قَصرَ عن دَمعٍ، وَإن كان من دمِ
أفي كُلّ عَامٍ لا تَزَالُ مُرَوَّعاً
بِفَذّ نَعيٍّ، تارَةً، أوْ بتَوْءَمِ
مَضَى أهلُكَ الأخْيَارُ، إلاّ أقَلَّهُمْ،
وَبَادوا، كمَا بَادَتْ أوَائلُ جُرْهُمِ
فَصِرْتَ كَعُشٍّ خَلّفَتْهُ فِرَاخُهُ
بعَلْيَاءِ فَرْعِ الأثْلَةِ المُتَهَشِّمِ
أحَبّ بَنُوكَ المَكْرُماتِ، فَفُرّقَتْ
جَماعَتُهُمْ في كلّ دَهياءَ صَيلَمِ
تَدانَتْ مَنَاياهُمْ بهِمْ، وَتَباعَدَتْ
مَضَاجِعُهُمْ عَنْ تُرْبِكَ المُتَنَسَّمِ
فَكُلٌّ لَهُ قَبْرٌ غَرِيبٌ بِبَلْدَةٍ،
فمِنْ مُنجِدٍ نائي الضّرِيحِ، وَمُتهِمِ
قُبُورٌ، بأطْرَافِ الثّغُورِ، كأنّمَا
مَوَاقِعُها مِنْهَا مَوَاقِعُ أنْجُمِ
بشاهِقَةِ البَذّينِ قَبْرُ مُحَمّدٍ،
بَعيدٌ عَنِ البَاكينَ، في كلّ مأتَمِ
تَشُقُّ عَلَيْهِ الرّيحُ، كلَّ عَشيّةٍ،
جُيُوبَ الغَمَامِ بَينَ بِكْرٍ وَأيِّمِ
وَقَبرَانِ في أعْلَى النّبَاجِ سَقَتْهُما
بُرُوقُ سُيُوفِ الغَوْثِ غَيثاً من الدّمِ
أقَبْرَا أبي نَصْرٍ وَقَحْطَبَةٍ هُمَا
بحَيثُ هُمَا، أمْ يَذْبُلٍ وَيَرَمْرَمِ
وَبالمَوْصِلِ الزْهرَاءِ مَلْحَدُ أحْمَدٍ،
وَبَينَ رُبَى القَاطولِ مَضْجعُ أصرَمِ
وَكَمْ طَلَبَتهُمْ مِنْ سَوَابقِ عَبْرةٍ،
متى ما تُنَهْنَهْ بالمَلامَةِ تَسْجُمِ
نَوَادِرُ في أقصَى خُرَاسانَ جاوَبَتْ
نَوَائحَ، في بَغدادَ، بُحِّ التّرَنّمِ
لَهُنّ عَلَيْهِمْ حَنّةٌ بَعْدَ أنّةٍ،
وَوَجْدٌ كَدُفّاعِ الحَرِيقِ المُضَرَّمِ
أبَا غانِمٍ أرْدَى بَنيكَ اعتِقادُهُمْ
بأنّ الرّدَى، في الحرْبِ، أكبرُ مَغنمِ
مَضَوْا، يَستَلِذّونَ المَنايا حَفيظَةً،
وَحِفظاً لذاكَ السّؤدَدِ المُتَقَدّمِ
وَمَا طَعَنُوا إلا ّ برُمْحٍ عَمْرٍ مُوَصَّلٍ،
ومَا ضَرَبُوا إلاّ بسَيْفٍ مُثَلَّمِ
وَلَمّا رَأوْا بَعضَ الحَياةِ مَذَلّةً
عَلَيهِمْ، وَعِزَّ المَوْتِ غَيرَ مُحرَّمِ
أبَوْا أن يَذوقوا العَيشَ، وَالذّمُّ وَاقعٌ
عَلَيْهِ، وَمَاتُوا ميتَةً لَمْ تُذَمَّمِ
وَكُلُّهُمُ أفْضَى إلَيْهِ حِمَامُهُ
أمِيراً عَلى تَدبيرِ جَيشٍ عَرَمْرَمِ
تَوَلّى الرّدَى مِنْهمُ بهَبّةِ صَارِمٍ،
وَمَجّةِ ثُعْبَانٍ، وَعَدْوَةِ ضَيغَمِ
حُتُوفٌ أصَابَتْهَا الحُتوفُ، وَأسهُمٌ
من المَوْتِ، كَرَّ المَوْتُ فيها بأسهُمِ
ترَى البِيضَ لم تَعرِفهُمُ، حينَ وَاجهتْ
وُجوهَهُمُ في المأزِقِ المُتَجَهِّمِ
وَلمْ تَتَذَكّرْ رَيّهَا بأكُفّهِمْ،
إذا أوْرَدُوها تحتَ أغْبَرَ أقْتَمِ
بَلى! غَيرَ أنّ السّيفَ أغدَرُ صَاحبٍ،
وَأكْفَرُ مَنْ نَالَتْهُ نِعْمَةُ مُنعِمِ
بنَفسِي نُفوسٌ لم تكُنْ جُملةُ العِدى
أشَدّ عَلَيهمْ مِن وُقُوفِ التّكَرّمِ
وَلَوْ أنصَفَتْ نَبهَانُ ما طَلَبَتْ بهمْ
سوَى المَجدِ، إنّ المجدَ خُطّةُ مَغرَمِ
دَعاها الرّدى بَعدَ الرّدى، فتَتابَعَتْ
تَتَابُعَ مُنْبَتّ الفَرِيدِ المُنَظَّمِ
سَلامٌ على تِلْكَ الخَلائقِ، إنّها
مُسَلَّمَةٌ مِنْ كُلّ عَارٍ وَمَأثَمِ
مَسَاعٍ عِظامٌ لَيسَ يَبلَى جَديدُها،
وَإنْ بَلِيَتْ مِنْهُمْ رَمَائِمُ أعظُمِ
وَلا عَجَبٌ للأُسْدِ، إنْ ظَفِرَتْ بها
كِلابُ الأعادي مِنْ فَصِيحٍ وَأعجمِ
فحَرْبَةُ وَحشِيٍّ سَقَتْ حَمزَةَ الرّدى،
وحَتْفُ عَليٍّ عَن حُسامِ ابنِ مُلجِمِ
أبا مُسلِمٍ! لا زِلْتَ بيِْنَ مُودَعٍ لنا
مِنَ المُزْنِ مَسكوبِ الحَيا وَمُسَلِّمِ
مَدامعُ بَاكٍ مِنْ بَني الغَيثِ، وَالِهٍ،
أُعارِكُها، أوْ ضَاحكٍ مُتَبَسّمِ
لَئِنْ لمْ تَمُتْ نَهبَ السّيوفِ وَلم تُقِمْ
بَوَاكيكَ أطرَافَ الوَشيجِ المُقَوَّمِ
لَبالرّكضِ في آلِ المَنِيّةِ، مُعلَماً،
إلى كلّ قَرْمٍ، بالمَنيّةِ، مُعْلَمِ
وَحَملِكَ ثِقلَ الدّرْعِ يحمى حديدُها
على ضَعْفِ جِسْمٍ، بالحَديدِ، مُهَدَّمِ
وَما جَدَثٌ فيهِ ابتسامُكَ للنّدَى،
إذا أظلَمَتْ أجداثُ قَوْمٍ، بمُظْلِمِ