إلهي عَلَى كلِّ الأمورِ لَكَ الحمْدُ – الشاعر البوصيري
إلهي عَلَى كلِّ الأمورِ لَكَ الحمْدُ
فليس لما أوليت من نعمٍ حدُّ
لك الأمرُ من قبل الزمانِ وبعدهِ
ومالكَ قبلٌ كالزمانِ ولا بعدُ
وحُكْمكَ ماض في الخلائِق نَافذٌ
إِذا شئتَ أمراً ليس من كونِه بُدُّ
تُضلُّ وتهدي منْ تشَاءُ منَ الوَرَى
وما بِيد الإنْسَان غَيٌّ ولا رُشْدُ
دعوا معشر الضلال عنا حديثكم
فلا خطأٌ منه يجابُ ولا عمدُ
فلو أنكم خلقٌ كريمٌ مُسختمْ
بقَوْلِكُم لكن بمَنْ يُمْسَخُ القِرْدُ؟
أتانا حديثٌ ما كرهنا بمثلهِ
لكُمْ فِتْنَة ً فيها لمِثلِكُمُ حَصْدُ
غَنِيتُمُ عَنِ التأْويلِ فيه بظاهرٍ
وَمَن ترَكَ الصّمْصَامَ لم يُغَنِهِ الغِمْدُ
وَأَعْشى ضياءُ الحقِّ ضَعْفَ عُقُولِكمْ
وشمسُ الضُّحَى تَعْشَى بها الأَعيُنُ الرُّمْد
ولن تدركوا بالجهل رشداً وإنما
يُفرقُ بين الزيفِ والجيد النقدُ
وعظتم فزدتمْ بالمواعظِ نسوة ً
وليسَ يفيدُ القَدْحُ إن أَصْلَدَ الزَّنْد
وما لَيَّنتْ نار الحجازِ قلوبكمْ
وَقد ذابَ مِن حرِّ بها الحَجَرُ الصَّلْدُ
وَما هِيَ إلا عينُ نَارِ جَهنَّم
تَرَدَّدَ مِنْ أَنفاسِها الحرُّ وَالبَرْدُ
أتت بشواظٍ مُكفَهِرٍ نحاسهُ
فلوِّحَ منها للضحى والدجى جلد
فما اسودَّ من ليلٍ غدا وهو أبيضٌ
وَما ابيضَّ منْ صبْحٍ غَدا وَهْوَ مُسْوَدُّ
تُدَمِّرُ ما تأتي عليه كعاصفٍ
من الرِّيح ما إن يُستطاعُ لهُ رَدُّ
تَمُرُّ عَلَى الأرض الشديد اختلافُها
فَتُنْجِدُ غَوْراً أوْ يغورُ بها نَجْدُ
وَتَرْمِي إلى الجوِّ الصُّخورَ كأنما
بِباطِنهَا غيظٌ على الجَوِّ أوْ حِقْدُ
وتخشى بيوتُ النارِ حرَّ دُخانها
وَيَزْدَادُ طُغيانا بها الفُرسُ والهِنْدُ
فلو قَرُبَتْ مِنْ سَدِّ يأجُوجَ بَعْدَما
بَنَى منه ذُو القَرْنَيْنِ دُكَّ بها السَّدُّ
وَلَمَّا أساء الناسُ جِيرة َ ربِّهِمْ
ولمْ يَرْعَها منهم رئيسٌ وَلا وَغْدُ
أَراهم مَقاماً ليسَ يُرْعَى لِجَارِهِ
ذمامٌ ولم يحفظ لساكنه عهدُ
مدينة نارٍ أحكمت شرفاتها
وأبراجها والسورُ إذ أبدع الوقدُ
وقد أبصرتها أهل بصرى كأنما
هي البصرة الجاري بها الجزر والمدُّ
أضاءت على بعد المزار لأهلها
من الإبلِ الأعناقُ والليلُ مربدُ
أشارت إلى أن المدينة قصدُها
وَلله سِرٌّ أنْ فَدَى ابنَ خَلِيلِهِ
يروحُ ويغدو كلُّ هولٍ وكربة ٍ
على الناس منها إذ تروح وإذ تغدو
فلمَّا التَجَوْا للمصطفى وتَحرَّمُوا
بساحتهِ والأمرُ بالناسِ مشتدُّ
أتوا بشفيعٍ لا يردُّ ولم يكنْ
بِخَلْقٍ سوَاهُ ذلك الهَوْلُ يَرْتَدُّ
فأُطْفِئَتِ النارُ التي وَقَفَ الوَرَى
حيارى لديها لم يعيدوا ولم يبدوا
فإنْ حَدَثَتْ مِنْ بَعْدِها نارُ فِريَة ٍ
فما ذلك الشيءُ الفَرِيُّ وَلا الإِدُّ
فللَّه سِرُّ الكائناتِ وجَهْرُها
فكمْ حِكم تَخْفَى وَكَمْ حِكَم تَبْدُو
وقدماً حمى من صاحب الفيلِ بيتهُ
ولمَّا أَتى الحَجَّاجُ أَمْكَنَهُ الهَدُّ
فلا تنكروا أن يحرمَ الحرمُ الغنى
وساكنه من فخره الفقر والزهدُ
وقد فديت من ماله خير أمة ٍ
وَلو خُيِّروا في ذلِكَ الأمرِ لَمْ يُفدُوا
فَواعَجَباً حتى البِقاعُ كَريمَة ٌ
لها مثلُ ما للساكِنِ الجاهُ وَالرِّفْدُ
فإِن يَتَضَوَّعْ منه طِيبٌ بِطَيْبة ٍ
فما هو إلاَّ المندلُ الرطبُ والندُّ
وإن ذهبت بالنار عنه زخارفٌ
فما ضَرَّهُ منها ذَهابٌ وَلا فَقْدُ
أَلاَ رُبما زادَ الحَبيبُ مَلاَحَة ً
إذا شُقَّ عنه الدرعُ وانتثرَ العقدُ
وكم سُتِرَتْ لِلْحُسْن بالحَلْي مِنْ حُلًى
وكم جَسَدٍ غَطَّى مَحَاسِنَهُ البُرْدُ
وأهيبُ ما يُلقى الحسامُ مجرَدَّاً
ورَوْنَقُهُ أنْ يَظْهَرَ الصَّفْحُ وَالحَدُّ
وما تلكَ للإسلامِ إلا بواعثٌ
على أَنْ يجِلَّ الشَّوْقُ أوْ يَعْظُمَ الوَجْدُ
إِلى تُرْبَة ٍ ضَمَّ الأَمانَة َ والتُّقَى
بها والنَّدى والفضلَ من أحمدٍ لحدُ
إلى سَيِّدٍ لم تأْتِ أُنْثَى بِمِثْلِهِ
وَلاَ ضَمَّ حِجْرٌ مِثْلهُ لاَ وَلاَ مَهْدُ
ولم يمشِ في نعلٍ ولا وطىء َ الثرى
شبيهٌ له في العالمين ولا ندُّ
شَبوقد أُحْكِمَتْ آياتُهُ وتشابَهَتْ
فَلِلْمُبْتَدِي وِرْدٌ لِلمُنْتَهي وِرْد
وإن كان فيها كالنجوم تناسخٌ
فطالعُهَا سَعْدٌ وغاربُها سعْدُ
وإن قصرت عن شأوها كل فكرة ٍ
فليست يدٌ للأنجم الزهرِ تمتدُ
فلمَّا عَمُوا عنها وصَمُّوا أَراهمُ
سيوفاً لها برقٌ وخيلاً لها رعدُ
ومن لم يلن منه إلى الحق جانبٌ
بِقَولٍ أَلانَتْ جَانِبَيهِ القَنا المُلْد
وقد يُعجِزُ الدَّاءُ الدَّواءَ مِن امرِىء ٍ
ويشفيه من داء به الكي والفصدُ
فغالبهم قومٌ كأن سلاحهم
نيوبٌ وأظفارٌ لهم فهم أسدُ
ثقاتٌ من الإسلامِ إن يعدوا يفوا
وإن يسألوا يهدوا وإن يقصدوا يجدوا
وَأَمَّا مكانُ الصِّدقِ منهم فإِنه
مقالهُمُ وَالطّعْنُ والضَّرْبُ والوعْدُ
إِذا ادَّرَعُوا كانتْ عُيُونُ دُرُوعِهِمْ
قلوباً لها في الرَّوْحِ مِنْ بَأْسِهِم سَرْدُ
يشوقك منهم كل حلمٍ ونجدة ٍ
تَحَلَّتْ بِكلٍّ مِنْهما الشِّيبُ وَالمُرْدُ
بهاليلُ أما بذلهم في جهادهم
فأنفسهم والمالُ والنصحُ والحمدُ
فلله صديقُ النبيِّ الذي له
فضائلُ لم يدرك بعدٍّ لها حدُّ
وَمَنْ كانَ لِلْمُخْتَارِ في الغارِ ثانياً
وَجَادَ إلى أنْ صارَ ليسَ لهُ وَجْد
فإِنْ يَتَخَلَّلْ بالعباءَة ِ إنه
بذلك في خُلاَّتهِ العلمُ الفردُ
ومن لم يخف في الله لومة لائمٍ
وَلم يُعْيِهِ قِسْطٌ يُقامُ وَلا حَدُّ
ولا راعه في الله قتلُ شقيقهِ
ألا هكذا في الله فليكن الجَلدُ
ومنْ جَمَعَ القرآنَ فاجْتَمَعَتْ به
فضائلُ منه مثل ما اجتمعَ الزبدُ
وجهَّزَ جيشاً سار في وقت عسرة ٍ
تعذَّر من قوتٍ به الصاعُ والمدُّ
ومن لم يُعَفَّر كَرَّمَ الله وجهه
جبينٌ لغير الله منه ولا خدُّ
فَتَى الحَربِ شَيْخُ العِلْمِ والحِلْمَ والحِجَى
عَلِيُّ الذي جَدُّ النَّبيِّ لَهُ جَدُّ
ومَن كانَ مِنْ خيرِ الأَنامِ بِفَضْلِهِ
كهارونَ مِن موسَى وذلكمُ الجَدُّ
تَوَهَّمْتَ أَنَّ الخَطْبَ ليس لهُ زَنْد
وإن عجمت أفواهها عودَ بأسهِ
أَفادَتْكَ عِلْماً أَنَّ أفواهَها دُرْدُ
يُوَرِّدُ خديهِ الجلادُ وسيفهُ
فذَاكَ إِذَا شَبَّهْتَهُ الأَسَدُ الوَرْدُ
وعندي لكم آل النبي مودة ٌ
سَلَبْتُمْ بها قلبي وصارَ له عِنْدُ
على أنَّ تذكاري لما قد أصابكم
يُجدِّدُ أشجاني وإن قدم العهدُ
فِدًى لكُمُ قَوْمٌ شقُوا وَسَعِدْتُمُ
فدارُهمُ الدنيا ودارُكمُ الخُلْدُ
أترجونَ من أبناء هندٍ مودة ً
وَقَدْ أرضَعَتْهُمْ دَرَّ بِغضَتِها هِنْدُ
فلاَ قَبِلَ الرَّحْمنُ عُذْرِي عُداتِكم
فإِنهم لا يَنْتَهُونَ وإِنْ رُدُّوا
إليك رسول الله عذري فإنني
بِحُبِّكَ في قَوْلِي ألِينُ وَأَشْتَدُّ
فإن ضاع قولي في سواك ضلالة ً
فما أنا بالماضي من القول معتدُّ
وما امتد لي طرفٌ ولا لان جانبٌ
لِغَيْرِكَ إلا ساءني اللِّينُ والمَدُّ
أأشْغَلُ عَنْ رَيْحَانَتَيْكَ قَريحَتِي
بشيحٍ ورندٍ لا نما الشيح والرَّندُ
وأَدْعُو سِفاهاً غيرَ آلِكَ سادتي
وهل أنا إنْ وُفقتُ إلا لهم عبدُ
فلاراح معنياً بمدحي حاتمٌ
ولا عُنِيَتْ هندٌ بِحبِّي ولا دَعْدُ
ولا هيَّجت شوقي ظباءٌ بوجرة ٍ
ولا بعثتْ وصفي نقانقها الربدُ
ويا طِيبَ تَشْبِيبي بِطَيْبَة َ لاثَنَى
عنان لساني عنك غورٌ ولا نجدُ
فَهَبْ لي رسولَ الله قُرْبَ مَوَدَّة ٍ
تَقَرُّ بِهِ عَيْنٌ وتَرْوَى بِه كِبْد
وإني لأَرجو أنْ يُقَرِّبَنِي إِلَى
جَنابِكَ إِرْقالُ الرَّكائِبِ والوخْد
ولولا وثوقي منك بالفوزِ في غدٍ
لما لَذَّ لي يَوْماً شَرابٌ وَلاَ بَرْدُ
علَيْكَ صلاة ُ الله يُضْحِي بطيْبَة ٍ
لَدَيْكَ بها وفْدٌ ويُمْسِي بها وفْدُ