سر بلاغة الاستعارة المكنية
بلاغة الاستعارة
تأتي بلاغة التشبيه من ناحيتين: الناحية الأولى وهي تأليف ألفاظه، والناحية الثانية وهي ابتكار مشبه به بعيد عن الأذهان ولا تكون إلا في نفس أديب وهبه الله الاستعداد في التعرف على وجوه الشبه الدقيقة بين الأشياء، ووهب الله تعالى له القدرة على ربط المعاني وتوليد بعضها من بعض إلى مدى بعيد لا يكاد ينتهي.[1]
سر بلاغة الاستعارة
لا يتخطى
سر جمال الاستعارة
هاتين الناحيتين:
- حيث أن تركيب بلاغتها من جهة اللفظ يدل على تناسي التشبيه.
- تجعلك تتخيل صورة جديدة تجعلك تنسى روعتها ما يحتويه الكلام من تشبيه خفي ومستور.
على سبيل المثال قول البحتري في الفتح بن خاقان: يسْمو بِكف عَلَى العافين حانِيَةٍ تَهْمِِِى وَطرْفٍ إِلى العلياءِ طمَّاحِ…وقد تمثلت كفه في صورة سحابة تصب وبلها على العافين، وأن تلك الصورة قد تملكت مشاعرك وفاجئتك عما اختفى في الكلام من تشبيه؟
وأيضاً في قوله في رثاء المتوكل وقد قتل غيلة: صريعٌ تقاضاه الَّياليِ حُشاشةً يجود بها والموتُ حُمْرُ أَظافِره…
فهل تستطيع أن تبعد عن ذهنك أن يتخيل هذه الصورة المخيفة للموت، وهي صورة لحيوان مفترس ضرجت أظافره بدماء قتلاها؟
ولهذا السبب تكون الاستعارة أبلغ من التشبيه البليغ، وسبب ذلك يرجع إلى إن بنى على ادعاء أن المشبه والمشبه به لا يزال التشبيه فيه ملحوظاً على عكس الاستعارة، فالتشبيه فيها منسي، وذلك يوضح لك أن الاستعارة المرشحة أبلغ من الاستعارة المطلقة، وأن الاستعارة المطلقة أبلغ من المجردة.
لكن من حيث ابتكار وروعة الخيال في بلاغة الاستعارة وما تتركه من أثر في نفوس كل من يسمعها، فهي مجال واسع للإبداع، وميدان لتسابق المجيدين من فرسان الكلام.
على سبيل المثال قوله تعالى في وصف النار:” تكاد تميز من الغيظ كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير” حيث تتخيل النار أمامك على هيئة مخلوق ضخم بطاش عابس الوجه يغلي صدره من الغيظ، ثم على سبيل المثال أيضاً قول أبي العتاهية في تهنئة المهدي بالخلافة: “أَتَتْهُ الخِلاَفةُ مُنْقادة إِليْهِ تُجَرِّر أَذْيالها”، تجد أن الخلافة هيفاء مدللة فتن بها كافة الناس، وهي ترفضهم وتعارضهم ولكنها تأتى للمهدي في طاعة ودلال تجر أذيالها، حيث أبدع أبو العتاهية في تشبيه تلك الصورة وستظل مقربة إلى النفوس والأسماع دائماً.
وعلى سبيل المثال قوله “إِذا اسْتلَّ مِنَّا سيِّدٌ غَرْبَ سَيْفِهِ تفزَّعت الأَفلاكُ والْتفتَ الدَّهْر” قل لي عن شعورك واحساسك عندما سمعت هذا القول وكيف تخيلت صورة الأفلام العظيمة حية حساسة مفزوعة وكيف تصورت الدهر وهو يلتفت من الدهشة؟، ثم استمع إلى قوله في منفاه وهو نهب اليأس والأمل: “أَسمعُ في نفسِي دبيب الْمُنى وأَلْمَحُ الشُّبْهَة في خاطِرِي”، تجد هنا أنه رسم لك صورة للأمل وهو يتمشى في النفس ويحس به ويسمعه، فهل رأيت إبداعاً مثل هذا في تصويره
الشك
والأمل؟ وهل رأيت ما للاستعارة البارعة من أثر؟[1]
ما هي الاستعارة المكنية
هي عبارة عن تشبيه حذف منه المشبه به ، و رُمز له بشيءٍ من صفاته، وهذا يعني أننا في الاستعارة المكنية لا نصرِّحُ بلفظ المشبه به، ولكن نحذفه، ونرمز له بشيءٍ من صفاته التي تدل عليه.
يتم إجراء الاستعارة المكنية مثل الاستعارة التصريحية تماماً، إلا إن هناك شئ واحد جديد وهو تعيين أو توضيح الصفات التي تدل على المشبه به المحذوف.[2]
سر بلاغة الاستعارة المكنية
تعتبر القيمة البلاغية للاستعارة في هذا الإطار في الأساليب العربية لما تضيفه من الفتنة والجمال فتكسب المعنى القوة و الوضوح، ووضوح الفكرة في لوحة بديعة يتضح على صفحتها كل معالم الإبداع والفن ، كما أنها تحلق بالسامع في سماء الخيال فتصور له الجماد حياً ناطقاً ، والزهر باسماً، والأمل غادة حسناء .
على سبيل المثال قول البارودي: “أسمع في نفسي دبيب المنى…و ألمح الشبهة في خاطري”، قد أبدع البارودي هنا واعتمد على خياله الخصب فرسم في البيت صورة الأمل يتمشى في النفس محسوساً ومسموعاً، وإن الظنون و الهواجس أصبح لها جسد يراه بعينه، فهل رأيت إبداعاً مثل هذا في تصويره الشك والأمل يتجاذبان؟ وهل رأيت ما للاستعارة البارعة من أثر؟، فأصبح البيت هنا لوحة بديعة يتضح على صفحتها كل معالم الإبداع والفن.
والاستعارة في البيت هنا مكنية في لفظ ( المنى، الشبهة ) حيث شبه الشاعر كلا منهما بإنسان ثم حذف المشبه به وهو الإنسان ورمز إليه بشئ من صفاته مثل في الأولى ( دبيب ) و في الثانية ( ألمح ).
ومما سبق يتضح أن الاستعارة من أروع
الألوان
البلاغية و ترجع بلاغتها إلى حسن تصويرها واختيار ألفاظها وإيجازها لأن اللغة تعتبر آلة لنقل الأفكار وهي أيضا أروع في الدلالة على المعنى من الحقيقة و من باقي الألوان البلاغية الأخرى.[2]
أمثلة لصور الاستعارة المكنية
- قال أبو ذؤيب الهذلي: “وإذا المنية أنشبت أظفارها…ألفيت كل تميمة لا تنفع”
في بيت الشعر السابق استعارة مكنية في لفظ ( المنية ) حيث شبه الشاعر المنية بالسبع بأن كلا منهما يغتال النفوس بالقهر دون تفرقة بين نافع وضار، وهنا حذف المشبه به وهو السبع و رمز إليه بشيء من صفاته وهي الأظفار، وقد أبدع الشاعر في هذه الاستعارة حيث أوضحت بأن المنية هي أمر معقول لا يوجد إلا في العقل في صورة الأمر المحسوس وجعل أيضاً الشاعر هنا المنية المعقولة سبع يغتال النفوس دون أن يفرق يفرق بين النفوس النافعة و النفوس الضارة فأثارت إعجاب السامع في سماء الخيال وحركت عاطفته و ذهنه فوقف مذهولا أمام هذا الجمال من التشبيه.
- قال دعبل الخزاعي: “لا تعجبي يا سلم من رجل…ضحك المشيب برأسه فبكى”
في هذا البيت استعارة مكنية في لفظ ( المشيب ) ، حيث شبه الشاعر المشيب هنا بإنسان، وهنا حذف المشبه به وهو الإنسان ورمز إليه بشيء من صفاته وهو الضحك، وقد أبدع الشاعر في هذا الاستعارة من تشبيه يجعل الجماد كائن حي عاقل له أحاسيس و مشاعر و أنه يضحك إذا رأى من المناظر ما يثير عاطفته و يحرك أحاسيسه.
- قال أبو العتاهية: “أتته الخلافة منقادة…إليه تجرر أذيالها”
في هذا البيت استعارة مكنية في لفظ ( الخلافة ) ، حيث شبه الشاعر الخلافة هنا بالغادة الحسناء ثم حذف المشبه و المشبه به ورمز إليه بشيء من صفاته و هو جر الذيل، وهذه الاستعارة رائعة جميلة، والسر في جمالها يرجع إلى حسن تصويرها و توضيحها المعنى المعقول الخفي في صورة المحسوس، حيث صورت الخلافة بفتاة حسناء فتنت بها النفوس و تعشق رؤيتها
القلوب
فجعلت المعنى المعقول ناطقا حيا ثم خلعت عليه ثوب الغادة الحسناء، فرسمت منظرا محبوبا للخلافة، حيث أبدع أبو العتاهية في تشبيه تلك الصورة وستظل مقربة إلى النفوس والأسماع دائماً.
- قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ” بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ”
حيث شبه
الإسلام
بالبيت، وحذف المشبه به وهو البيت ورمز له بشيء من لوازمه الجوهرية وهو البناء.
- قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)
حيث شبه الذل بالطائر، وحذف المشبه به وهو الطائر ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الجناح.[2]