شرح وصية زهير بن جناب الكلبي ” يا بَنِيَّ قد كَبُرَتْ سِنِّي “

تعريف الشاعر زهير بن جناب الكلبي

زهير بن جناب بن هبل الكلبي هو إسمه كاملاً، كان زهير شيخ قبيلة بني كلب وشاعر محارب عربي في عصر الجاهلية، أتخذ شهرته الواسعة وسيرته الذاتية نتيجة رواياته شبه الأسطورية، عاش زهير في أوائل القرن السادس، وقمع تمرد قبائل تغلب وبكر حيث أسر قادتهم بما في ذلك كليب بن ربيعة كما دمر الضريح الوثني لقبيلة القطفان والذي كان ينافس وقتها الكعبة في مكة، يقال أن زهير قتل نفسه ومات منتحراً بشرب النبيذ، لكن لم يؤثر ذلك على استمرار أسطورته ومكانته حيث تواجد من نسله قبيلة بني حارثة بن جناب، فجاءت حاريثة بن جناب بن قيس بن امرؤ القيس بن جابر بن زهير بن جناب، ولعب عدد كبير من أفراد عائلة جناب أدوارًا قيادية في التاريخ الإسلامي. [1]

شعر زهير بن جناب

تميز زهير بقصائده وأبيات شعره التي مازالت تُدري حتى الآن فلم يأتي مثله في الشعر، ومن أشهر أبيات قصائده :


قصيدة لَقَد عَلِمَ القَبائِلُ أَنَّ ذِكري

لَقَد عَلِمَ القَبائِلُ أَنَّ ذِكري

بَعيدٌ في قَضاعَةَ أَو نِزارِ

وَما إِبِلي بِمُقتَدَرٍ عَلَيها

وَما حِلمي الأَصيلُ بِمُستَعارِ

سَتَمنَعُها الفَوارِسُ مِن بَلِيٍّ

وَتَمنَعُها فَوارِسُ مِن صُحارِ

وَيَمنَعُها بَنو القَينِ بنِ جَسرٍ

إِذا أَوقَدتُ لِلحَدَثانِ ناري

وَيَمنَعُها بَنو نَهدٍ وَجَرمٌ

إِذا طالَ التَجاوُلُ في الغِوارِ

بِكُلِّ مُناجِدٍ جَلدٍ قُواهُ

وَأَهيَبُ عاكِفونَ عَلى الدُوارِ


قصيدة تَبّاً لِتَغلِبَ أَن تُساقَ نِساؤُهُم

تَبّاً لِتَغلِبَ أَن تُساقَ نِساؤُهُم

سَوقَ الإِماءِ إِلى المَواسِمِ عُطَّلا

لَحِقَت أَوائِلُ خَيلِنا سَرَعانَهُم

حَتّى أَسَرنَ عَلى الحُبَيِّ مُهَلهِلا

إِنّا مُهَلهِلُ ما تَطيشُ رِماحُنا

أَيّامَ تَنقُفُ في يَدَيكَ الحَنظَلا

وَلَّت حُماتُكَ هارِبينَ مِنَ الوَغى

وَبَقيتَ في حَلَقِ الحَديدِ مُكَبَّلا

فَلَئِن قُهِرتَ لَقَد أَسَرتُكَ عَنوَةً

وَلَئِن قُتِلتَ لَقَد تَكونُ مُرَمَّلا


قصيدة سائِل أُمَيمَةَ عَنّي هَل وَفَيتُ لَه

سائِل أُمَيمَةَ عَنّي هَل وَفَيتُ لَه

أَم هل منَعتُ مِنَ المَخزاةِ جيرانا

لا يَمنَعُ الضَيمَ إِلّا ماجِدٌ بَطَلٌ

إِنَّ الكَريمَ كَريمٌ أَينَما كانا

لَمّا أَبى جيرَتي إِلّا مُصَمِّمَةً

تَكسو الوُجوهَ مِنَ المَخزاةِ أَلوانا

مِلنا عَلَيهِم بِوِردٍ لا كِفاءَ لَهُ

يَفلِقنَ بِالبيضِ تَحتَ النَقعِ أَبدانا

إِذا اِرجَحَنّوا عَلَونا هامَهُم قُدُماً

كَأَنَّما بِالبيضِ تَحتَ النَقعِ أَبدانا

كَم مِن كَريمٍ هَوى لِلوَجهِ مُنعَفِراً

قَدِ اِكتَسى ثَوبُهُ في النَقعِ أَلوانا

وَمِن عَميدٍ تَناهى بَعدَ عَثرِتِه

تَبدو نَدامَتُهُ لِلقَومِ خَزيانا

إِنَّ بَني مالِكٍ تَلقى غَزِيَّهُمُ

في الزادِ فَوضى وَعِندَ المَوتِ إِخوانا


قصيدة لَم تَصبِر لَنا غَطَفانُ لَمّا

لَم تَصبِر لَنا غَطَفانُ لَمّا

تَلاقَينا وَأُحرِزَتِ النِساءُ

فَلَولا الفَضلُ مِنّا ما رَجَعتُم

إِلى عَذراءَ شيمَتُها الحَياءُ

وَكَم غادَرتُمُ بَطَلاً كَمِيّاً

لَدى الهَيجاءِ كانَ لَهُ غَناءُ

فَدونَكُمُ دُيوناً فَاِطلُبوها

وَأَوتاراً وَدونَكُمُ اللِقاءُ

فَإِناَّ حَيثُ لا يَخفى عَلَيكُم

لَيوثٌ حينَ يَحتَضِرُ اللِواءُ

فَخَلّى بَعدَها غَطَفانُ بَسّاً

وَما غَطَفانُ وَالأَرضُ الفَضاءُ

فَقد أَضحى لِحَيِّ بَني جَنابٍ

فَضاءُ الأَرضِ وَالماءُ الرَواءُ

وَيَصدُقُ طُعنُنا في كُلِّ يَومٍ

وَعِندَ الطَعنِ يُختَبَرُ اللِقاءُ

نَفَينا نَخوَةَ الأَعداءِ عَنّا

بِأَرماحِ أَسِنَّتُها ظِماءُ

وَلَولا صَبرُنا يَومَ التَقَينا

لَقينا مِثلَ ما لَقِيَت صُداءُ

غَداةَ تَعَرَّضوا لِبَني بَغيضٍ

وَصِدقُ الطَعنِ لِلنَوكى شِفاءُ

وَقَد هَرَبَت حِذارَ المَوتِ قَيسٌ

عَلى آثارِ مَن ذَهَبَ العَفاءُ


قصيدة أَبَنِيَّ إِن أَهلِك فَإِنّي

أَبَنِيَّ إِن أَهلِك فَإِنّ

ي قَد بَنَيتُ لَكُم بَنِيَّه

وَجَعَلتُكُم أَبناءَ سا

داتِ زِنادُكُم وَرِيَّه

مِن كُلِّ ما نالَ الفَتى

قَد نِلتُهُ إِلّا التَحِيَّه

كَم مِن مُحَيٍّى لا يُوا

زيني وَلا يَهَبُ الرَعِيَّه

وَلَقَد رَأَيتُ النارَ لِلسُ

لّافِ تُوقَدُ في طَمِيَّه

وَلَقَد رَحَلتُ البازِلَ ال

وَجناءَ لَيسَ لَها وَلِيَّه

ولقد عَدَوتُ بِمُشرَفِ الطَ

رَفَينِ لَم يَغمِز شَظِيَّه

فَأَصَبتُ مِن حمرِ القَنا

نِ مَعاً وَمِن حُمرِ القَفِيَّه

وَنَطَقتُ خَطبَةَ ماجِدٍ

غَيرِ الضَعيفِ وَلا العَيِيَّه

وَالمَوتُ خَيرٌ لِلفَتى

وَليَهلِكَن وَبِهِ بَقِيَّه

مِن أَن يُرى الشَيخَ البَجا

لَ وَقَد يُهادى بِالعَشِيَّه

جَدَّ الرَحيلُ وَما وَقَف

تُ عَلى لِميسَ الأَرأَشِيَّه

وَلَقى ثَوائي اليَومَ ما

عَلِقَت حِبالُ القاطِنِيَّه

حَتّى أُوَدِّيَها إِلى ال

مَلِكِ الهُمامِ بِذي الثَوِيَّه

قَد نالَني مِن سَيبِهِ

فَرَجَعتُ مَحمودَ الحَذِيَّه

وصية زهير بن جناب الكلبي

الوصية في العصر الجاهلي نوعاً من أنواع الفنون الأدبية وشعبة من شعب النثر العربي، وتعني الوصية ما يوصي به شخصاً ما قبل وفاته، فتبدء بالمقدمة بعد ذلك موضوع الوصية فتكون في النهاية كالنص الأدبي مقسمة إلى عدة أقسام، تتضمن أفكار واضحة خالية من الغموض وعهود يتخذها صاحب الوصية على أبنائه أو الشخص المقصود بالوصية، أما أكثر ما يميزها هو أسلوبها  المقنع والحكمة في الكلمات المُختارة والعظة، بدأ زهير وصيته بالتمهيد المقنع فقال أنا طاعن بالسن أي كبير في السن، مجرّب وحكيم لذلك يحق لي أن أنصحكم وما يجب عليكم إلا الإصغاء لي.

تعتبر وصية زهير بن جناب الكلبي ” يا بَنِيَّ قد كَبُرَتْ سِنِّي ” واحدة من أفضل ما قيل في فن الوصايا، فهى تضم الكثير من الحكم والمبادئ التي يجب أن يتعامل بها الإنسان في حياته، وتتضمن هذه الوصية أقوال زهير بن جناب لأبنائه بعد خبرته الطويلة في الحياة، فكما قيل عن زهير أنه عاش عمراً طويلاً وكانت حياته مليئة بالكثير من التجارب والأحداث المثيرة للأهتمام حيث خاض عدداً كبيراً من الحروب، فضلاً عن تجارب الحياة التي جعلته قادراً على تكوين خبرة كافيه من أجل نُصح أبنائه لحياة مستقيمة.

فقد أوصى زهير أبنائه بعدد كبير من الوصايا والتي تعد مناسبة جداً مع أي زمان ومكان، فطلب منهم عدم الخوف الشديد نتيجة حدوث المصائب، قائلاً أن المصائب ما هى إلا أقدار من الحياة فلا يمكن للإنسان أن تكون حياته خالية من الصعاب والأزمات، فبدلا ً من الإستسلام لها والخوف من نتائجها يجب تحملها والعمل بجد للتصدي لها بمفردك دون اللجوء والإعتماد على الآخرين ودون الهرب منها، كما حذر زهير أبنائه من السخرية من ابتلاءات غيرهم قائلاً أن كل من عاب  شيء حتماً سيُبتلى به، وأيضاً نبههم بأن مهما حاولوا الهرب من مصائب الزمن وكوارثه سوف تصيبهم الكوارث أينما ذهبوا يميناً أو يساراً، وبرر ذلك قائلاً أنها سنة الحياة فلا توجد حياة خالية من السقطات والتعثرات، لكن أهم شيء أن يكون الإنسان محسناً الظن بالله يقوم بما عليه من واجبات ويحاول قدر ما يستطيع أن يدفع الأذى عنه ويحمى نفسه، قال زهير لأبنائه في وصيته :

“يا بَنِيَّ قد كَبُرَتْ سِنِّي، وَبَلَغْتُ حَرْسًا مِن دَهري، فَأَحْكَمَتْنِي التجاربُ، والأمورُ تَجْرِبَةٌ واختبارٌ، فاحفظوا عَنِّي ما أقولُ، وَعُوهُ.

إيَّاكم والخَوَرَ عندَ المصائبِ، والتواكلَ عندَ النَّوائبِ، فإِنَّ ذلك داعيةٌ لِلغَمِّ، وشَمَاتَةٌ لِلعدوِّ، وسوءٌ ظَنِّ بالرَّبِّ.

وإِيَّاكم أَنْ تكونوا بالأحداثِ مُغْتَرِّينَ، ولها آمنينَ، ومنها سَاخرينَ؛ فإِنَّه ما سَخَرَ قومٌ قطُّ إِلاَّ ابتُلُوا؛ ولكنْ تَوَقَّعُوها؛ فإنما الإنسانُ في الدّنيا غَرَضٌ تَعَاوَرَهُ الرُّماةُ، فَمُقَصِّرٌ دونَه، ومُجَاوِزٌ لِمَوضِعِه، وواقِعٌ عن يَمِينِه وشَمَالِهِ، ثم لا بدَّ أنَّه مُصِيْبُه” [2]