معركة ساحة الدم

شهد العام الهجري ٥١٣ أن تُكتب كلمة النهاية بيد المسلمين تحت قيادة “ايلغازي بن الارتق” في معركتهم مع جنود إمارة إنطاكية من الصليبيين تحت قيادة “روجر دي سالرنو” وذلك بعد سلسلة قتال لم ينتهي إلا بعد سنوات ؛ من أجل استرداد الأرض الإسلامية، وزف البشرى لجميع القادة العرب والمسلمين في هذا التوقيت بتحقيق انتصار آخر على الغزاة الصليبيين.

معركة ساحة الدم

  • ساعد اختلاف المسلمين، وتهاونهم، واستخفافهم بعدوهم والصراعات التي دارت بينهم؛ من أجل تحقيق المكاسب، والمطامع الصغيرة، إلى إلحاق هزيمة نكراء بهم. وهو ما أسفر عن قيام أربع إمارات تحت حكم قادة


    الحملات الصليبية


    ، وهم : إمارة الرها، وإمارة إنطاكية في عام (491هـ)، وإمارة مملكة بيت المقدس في عام (492هـ)، ومملكة طرابلس في عام (502هـ).
  • ورغم محاولات عدة لقادة المسلمين من أجل استرداد الأراضي المُغتصبة، والحقوق المنهوبة، إلا أن جميع هذه المحاولات قد باءت بالفشل تحت راية العويل والبكاء على الأطلال، وما كان قبل الحدث، وما آلت إليه الأمور.

وقوع إنطاكية تحت الحكم الصليبي

  • وصل إلى مسامع “ياغي سيان” حاكم إنطاكية أن الحملة الصليبية الأولى في طريقها إليه، فأعد العُدة، وأمر جنده بالاحتشاد بالقلاع، وزود المخازن بالمؤن، وحفر الخندق لحماية إنطاكية، وأرسل إلى كام دمشق والموصل، وحِمص طالباً العون.
  • زحفت طلائع الصليبيين إلى المدينة في شهر ذي القعدة من عام (490هـ)، ولكن للأسف لم تُفلح نجدات حلب والموصل ودمشق في أن تغير من الأمر شيء؛ خاصة وأنها وصلت بعد ثلاثة أشهر من بداية المعركة، ولم تفلح كذلك في مساعدة “ياغي” في التصدي للصليبيين ، والذين نجحوا بدورهم في الاستيلاء على إنطاكية في الأول من رجب لعام (492هـ).
  • راح ضحية المذبحة التي غمس فيها الصليبيون أيديهم بدماء النساء والرجال من مواطني إنطاكية الكثير، ورفع “بوهيمند النورمندي” قائد الحملة العلم القرمزي وسط صيحات النصر للجنود الصليبيين، والتي كانت تردد “إنها إرادة الرب”.
  • بدأ “بوهيمند” في إرساء دعائم إمارته الجديدة على حساب جيرانه من مسلمي حلب، والتي بدأ في رسم خطته للزحف إليها والسيطرة عليها. ولكن الأمر انتهى به إلى الأسر في إحدى حملاته العسكرية بعام (493هـ)  وظل أسيراً لمدة ثلاث سنوات.
  • خرج “بوهيمند” من الأسر؛ ليبدأ في تنفيذ خطته التوسعية، مُستغلاً انشغال المسلمين بقتال بعضهم البعض. وكانت البداية حينئذٍ تتمثل في استيلائه على “حران” بغرض تأمين إمارة إنطاكية.
  • لحقت به هزيمة أخرى، أفقدته على إثرها الكثير من أمراء الصليبيين، وراح ضحيتها الآلاف من جنده، فضلاً عن رغبته في استكمال القتال، والتي انعدمت، ولهذا قرر العودة إلى إيطاليا، وترك حكم الإمارة الإنطاكية لابن أخته “تانكرد” وذلك في عام (498هـ).
  • وعلى عكس خاله، تميز “تانكرد” بصفته قائداً بالشجاعة والبراعية والمثابرة، وتلك الصفات جعلته جديراً باستعادة كل ما خسرته إنطاكية في معركتها الأخيرة بحران على حساب مدينة حلب.
  • يُضاف أنه تمكن من إحكام سلطته بدءاً من جبال طوروس حتى وسط الشام؛ الأمر الذي استنكره حكام الشام المسلمين بدمشق، والذين رغم تطلعهم للتحالف بتكوين جبهة لمواجهة هذا الخطر إلا أن ما فرقهم هو المصالح الشخصية، و الأدهى من ذلك هو انقسامهم إلى جزأين؛ أولهما يدفع الجزية للأمير الصليبي حاكم إنطاكية، وثانيهما يُقبل على التحالف معه ضد المسلمين.
  • توفي “تانكرد” في عام (506هـ)، وخلفه في حكم إنطاكية “روجر دي سارنو”، والذي استطاع بفضل مهارته وجرأته أن يُلحق بالمسلمين هزيمة جديدة في معركة “تل دانيث” في ربيع الآخر عام (509هـ).

محاولة السيطرة على حلب

  • لطالما مثلت حلب تحدياً كبيراً أمام أمراء الصليبيين، وذلك لعدة أسباب، وهي:
  • موقعها الحيوي؛ إذ أنها تتوسط الإمارتين الرها، وإنطاكية.
  • ثراؤها البشري، ومستواها الإقتصادي المميز، وطرق النقل، وحركة المواصلات بها أيضاً.
  • قوة تواصلها بالقوى الإسلامية في الجزيرة والأناضول والفرات وشمالي الشام ووسطه.
  • وكان ما أدى إلى زعزعة الأمور بحلب؛ هو تحكم الأوصياء على أبناء حاكم حلب المُتوفي عام (507هـ) “رضوان بن تتش”، وذلك ما أظهر الكير من مواطن الضعف بشخصياتهم.
  • ومن ثم، قام روجر أمير إنطاكية بمعاونة مسؤوليها بالعمل على منع “إيلغازي الأرتقي” صديق مادرين أمير مملكة القدس من التفكير بالاستحواذ على حلب أو ضمها لدولته.
  • تدهور الأمر بحلب؛ حتى أصبح المسئولون بها يعتمدون على روجر في رد مطامع الاستيلاء عليها من أمراء المسلمين!
  • وقعت حلب تحت رحمة إنطاكية، وذلك في عام (511هـ)، واستنجد أهلها بـ”المغازي” والذي اعتمدت سياسته على التحالف مع أمراء المسلمين ضد الصليبيين.

الانتصار في ساحة الدم

  • استطاع إيلغازي دخول حلب، وقام في البداية بعدة تغييرات كان أبرزها مصادرة أموال الأمراء الذين تولوا حكم حلب في الفترة السابقة، واستعان بها لكي يثعد العُدة بمساعدة التركمان لمجابهة الصليبيين.
  • ذهب إيلغازي إلى “طغتكين البوري” حاكم دمشق، واتحد معه؛ لأجل البدء في مهاجمة إنطاكية في صفر عام 513هـ.
  • أرهب إيلغازي بتحركه الرشيق، يعاونه حليفه التركماني، ونحو عشرين ألفا من المقاتلين التركمان عدوه الصليبي بإمارة الرها؛ ولهذا اضطر الأمير الصليبي بدوره تحت وطأة الخوف إلى عرض المصالحة مقابل تسليمه أسرى المسلمين لديهم.
  • اشترط “إيلغازي” بالمقابل على الصليبيين بالرها عدم مغادرتها تحت أي ظرف؛ حتى وإن كا نجدة أمير أنطاكية في حالة شب قتال معه.
  • وفي سلسلة من الانتصارات المتتالية تمكن إيلغازي وحلفاؤه من السيطرة على: تل باشر، و تل خالد، وما يحيط بهما، وحصن قسطون، ومدينة قنسرين والتي شن منها الغارات على جبل السُماق، وحارم.
  • عندما أحس روجر بالخطر، أسرع بطلب المعونة والمدد من أمراء طرابلس، وبيت المقدس، وعكسر خارج إنطاكية منتظراً المدد، لكن عندما طال انتظاره تقدم صوب القوات الإسلامية يقد جيشاص من تسعة آلاف راجل، من بينهم خمسمائة فارس أرمني، وثلاثة آلاف فارس آخرين نحو تل عفرين.
  • وعلى الرغم من ظن روجر بأن موقع كهذا سيمنع هجمات المسلمين حتى تأتي الإعدادات، استطاع إيلغازي أن يحصل على مايريده عن روجر وجيشه؛ بفضل جواسيسه المتنكرين في زي التجار، والذي مكنهم من الدخول إلى معسكرات الصليبيين، ومعرفة أهم استعدادتهم.
  • وفي اللحظة الحاسمة، كان إيلغازي يُفكر في انتظار حليفه طفكتين الدمشقي قبل أن يشرع في المعركة، ولكن أمراء المسلمين شجعوه على عدم الانتظار لوقت أطول، واتخاذ القرار بقتال العدو، وقد كان.
  • فوجيء جيش الصليبيين بقيادة روجر، بزحف قوات المسلمين بقيادة إيلغازي فجر يوم السبت السادس عشر من ربيع أول عام 513 هـ، والتي نجحت في أن تُفقد العدو الصليبي توازنه، وأن تُلحق به الهزيمة التي صرعت الجميع من فرط المفاجأة وعلى رأسهم روجر نفسه.
  • نجح المسلمون في الحصول على الغنائم،  والسبي بأعداد لا حصر لها، واستطاع إيلغازي النزول بخيمة روجر بعد الفوز بالمعركة، ولم يأخذ من الغنائم إلا السلاح؛ من أجل اهدائه لملوك المسلمين، بالإضافة إلى أنه كتب إليهم يزف الأخبار بهذا الانتصار العظيم.

بلغت معركة ساحة الدم بفضل إيلغازي وجيوش المسلمين أهمية تاريخية عظيمة، رُغم اكتفاء إيلغازي بهذا الانتصار، وعدم سعيه للفوز بإمارة إنطاكية، والتي إن حدث وكان قد سعى إليها لفاز بها؛ فقد كانت في هذا الوقت خالية تماماً من الجنود.