مفهوم الوساطة القضائية
تمتلك كل دولة المقومات والمفاهيم والعناصر والقوانين الخاصة بها التي تحكم جميع المعاملات والعلاقات على أراضيها ، وقد تم صياغة تلك العناصر والأسس والقواعد في صورة ما يُعرف باسم الدستور الذي يتم الرجوع إليه دائمًا وأبدًا فيما يخص القوانين والأحكام وأسس ومقدرات الدولة ، حيث يعتمد الدستور على توضيح السمات والصلاحيات الخاصة بالسلطات داخل الدولة وهي السلطة التشريعية ، والسلطة التنفيذية ، و
السلطة القضائية
، وقد ظهر في العصر الحالي أيضًا مفهوم هام جدًا في القضاء ألا وهو الوساطة القضائية .
الوساطة القضائية
تعتبر الوساطة القضائية هي أحد الوسائل التي يتم اللجوء إليها من أجل فض العديد من الخصومات والصراعات القائمة والتي يتم رفعها إلى القضاء وتتم تحت رقابته ، حيث يقوم القاضي في ضوء الوساطة القضائية بتفويض طرف ثالث يرتضيه طرفي النزاع حتى يُساعدهم على الوصول إلى أحد الحلول الودية والتي تُساعد على إنهاء هذا النزاع وتلك الخصومة بشكل ودي بعيدًا عن أحكام وعقوبات القضاء .
ولقد نشأت الوساطة القضائية بشكل أساسي حتى تكون عاملًا مُساعدًا لتخفيف أعباء القضاء ومساعدة المتنازعين على تسوية أمورهم بشكل ودي وسريع من خلال تقريب وجهات النظر فيما بينهم ومن ثَم الوصول إلى حل نهائي يقضي على على هذا النزاع بشكل كامل وتام ، وإذا لم يُفلح الوسيط القضائي في مهمته ولن تنتهي الأزمة بين طرفي الصراع ؛ فهنا تؤول القضية مرة أخرى إلى القاضي حتى يقوم بالفصل فيها بما يخوله له القانون والدستور .
أنواع الوساطة
هناك عدة أنواع من انواع الوساطة ، وعند الرغبة في إدراك معنى الوساطة القضائية بشكل كامل وتام ، فيجب الانتباه إلى أوجه الوساطة الأخرى حتى يتثنى للدارس التفريق بين الوساطة القضائية و
أنواع الوساطة
الأخرى على النحو التالي :
الوساطة المالية
وهي تعني التقريب في وجهات النظر بين طرفين من أجل إقامة مشروع ومن ثَم تحقيق مصلحة عامة ، وهناك بعض الجهات المختصة المعنية بالقيام بهذا النوع من الوساطة .
الوساطة الاتفاقية
وهي تعني إتمام أحد العقود التي يُقر بها طرفين تفويضهم لطرف ثالث بأن يكون وسيط فيما بينهما حتى يقوم بالسعي إلى إتمام الصلح وإنهاء النزاع في أي خلاف أو نزاع محتمل قد يقع بين الطرفين أصحاب
التفويض
.
الوساطة العقارية
أما المقصود بالوساطة العقارية فهي عبارة عن عقد يتم على عوض معلوم ؛ وهو يكون مقابل السعي بين شخصين وليس نيابة عنها في عقار .
ويُذكر أن الوساطة تشترط أن يكون هناك اتفاق ورضاء من طرفي النزاع بشخص وطبيعة الوسيط ، ويجب أن تتوافر لدى الطرفين أيضًا الرغبة في اللجوء إلى الوساطة بدلًا من اللجوء إلى الأحكام القضائية ، وهناك اختلاف بالطبع في المفهوم بين الوساطة المالية والعقارية وبين الوساطة القضائية .
أهمية الوساطة القضائية في التشريع
-تُعد الوساطة القضائية من المفاهيم التي تُعبر عن روح الإسلام :؛ حيث ان الدين الإسلامي قائم في الأساس على الود والخير وإصلاح ذات البين بين جميع المسلمين ، وفي هذا الصدد ؛ فإن الوساطة القضائية تُعتبر من أهم مظاهر المجتمعات الإسلامية والتي يجب بالفعل تطبيقها من أجل القضاء على الضغينة والشحناء .
-ومع انتشار مظاهر الكره والحقد بشكل كبير بين أبناء المجتمع ؛ كان لا بُد من إعلاء أهمية الوساطة القضائية والتي تُساعد قدر الإمكان على إنهاء تلك الصراعات والشحناء والنزاعات بشكل ودي قدر الإمكان ، فضلًا عن أن الوساطة القضائية أيضًا تُعتبر من الحلول السريعة التي تجنب الطرفين انتظار التأخير الذي دائمًا ما تسلكه القضايا عبر المراحل القضائية المختلفة .
-وقد جاء في القران الكريم الكثير من الايات القرانية التي قد أشارت إلى أهمية التعاون دائمًا على إصلاح ذات البين بين المسلمين وبين أبناء الدولة سواء ، حيث قد ورد قول الحق تبارك وتعالى في
سورة المائدة
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [1] .
وبالتالي ؛ فإن الاية الكريمة تُشير بشكل واضح إلى أهمية التعاون على الخير والحق والبر بين المسلمين و
أهمية العمل
على القضاء على الضغينة والإثم وانتشار مشاعر الحقد والغل والكره بين أبناء الأمة ، وفي ضوء الوساطة القضائية ؛ فهي تُعتبر التنفيذ العملي للأمر الرباني { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ، أي أنه من المهم أن يتعاون جموع أبناء الأمة على نشر الخير والسلام بين أبناء المجتمع وأن لا يتعاونوا على نشر الإثم والضغينة .
-ولقد ورد عن سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضًا الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي قد أكدت كذلك على هذا المعنى وأهمية إفشاء السلام ونبذ الكره والعنف والحقد والضغينة ، ومن المثلة على ذلك ؛ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ قال : { لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ؛ أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم : أفشوا السلام بينكم } ، وبالتالي ؛ فإن الحديث الشريف يُعتبر دلالة اكيدة أيضًا على أهمية الحرص على نشر الود والمحبة بين جموع المسلمين والعمل على إصلاح الخصومات والنزاعات والصراعات القائمة بينهم بشكل ودي يرتضيه الطرفين من أجل إفشاء الخير والسلام في المجتمع .
ومما سبق نستنتج أن الوساطة القضائية ذات أهمية كبيرة ومكانة فائقة أيضًا في الشريعة الإسلامية ولا يوجد بينها وبين التشريع الإسلامي أي تعارض .
-ويُذكر أن الوساطة القضائية لا تجبر أي طرف على التصالح مع طرف اخر او التنازل عن حقه إلا إذا كان ذلك نابعًا من نفسه وذاته دون إجبار من أي طرف ، كما أن الوساطة تقتضي الحفاظ على حق الطرفين وأخذ التعهدات اللازمة على الطرف الطاغي برد المظالم وأخذ التعهد على الطرف المظلوم أيضًا بإقرار استرداد مظلمته وعدم الجور على الطرف الثاني وهكذا .
-كما أن الوساطة القضائية تقتضي بعض الشروط الهامة ؛ بأن يكون الطرف الوسيط ليس ذات
صلة قرابة
أو صداقة بأي شكل بأي من طرفي النزاع وأن يكون مشهود له بالنزاهة والحق والعدل ، ولا بُد أن يكون الطرفين مقرين وراضين رضاء تام عن قبول الوساطة القضائية مع إقرار ذلك لدى الجهات المعنية أيضًا .
-وتكمن أهمية الوساطة القضائية أيضًا إلى جانب دورها في إنهاء النزاع ونشر السلام إلى أنها تُجنب الطرفين التأخير في القضاء الذي قد يمتد إلى عدة سنوات في المحاكم دون أن ينتهي النزاع ، وبالتالي ؛ فإن سرعة القرار والنفاذ في حالة الوساطة القضائية ؛ جعلت الكثير من الأشخاص يرتضون بها وقد نجحت تلك الوساطة أيضًا في إنهاء عدد لا حصر له من النزاعات والصراعات بين الأسر والعائلات وأبناء الوطن .