ما هو فن الكسرة – الكسرات الحجازية

يعرف سكان الخليج  فنا عريقا يعدونه من أرقى أنواع فنونهم الشعرية الغنائية  يطلقون عليه “فن الكسرة ” ، وهو تصوير دقيق لمعاناة يجسدها الشاعر في بيتين من الشعر تجمع شتات الموضوع المطروح أو الرأي في معالجته ، ولن يتمكن من الإبداع في الكسرة من ليس لديه مقدرة فنية وموهبة نافذة لأن سر إكتمال الكسرة يكمن في جودة بنائها من حيث دقة التعبير وانتقاء العبارة والكلمات التي تتكون منها وأخيرا أسلوب الإثارة ، كل ذلك له أهمية في تشكيل الكسرة واعتراف النقاد بها ومن ثم تداولها بين عشاقها وما أكثر الكسرات وما أقل ما يصل منها إلى درجة الجودة التي تعطيها الحق في تسميتها ” كسرة ” .

موطن الكسرة الاصلي

الكسرة احدى

الفنون الشعبية في الحجاز

. وتعتبر منطقة ما بين الحرمين الشريفين هي الموطن الأصلي لشعر الكسرة ، وتلك المنطقة تمتد من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، لتشمل جميع الأودية الحجازية والمدن والقرى الواقعة على تلك الأودية وعلى ساحل البحر الأحمر .[2]

ومن الشواهد التي تؤيد ذلك ما يلي :

– أن نظم الشعر على وزن شعر الكسرة لدى سكان تلك المنطقة يعتبر في المقام الأول في نظم الشعر، ومتفوقاً على غيره بمراحل ، والنظم عليه يكون لكافة الأغراض مثل : الرثاء والمدح والفخر والهجاء ….الخ ، بل نجد أُناس من أهل تلك المنطقة ليسوا بشعراء ولم يعهد عنهم قرض الشعر ، ومع ذلك نجد لأحدهم كسرة أو عدة كسرات قالها يصف بها حادثة، أو حوادث ألمت به .

– أن شعر الكسرة هو عماد الألعاب الشعبية في تلك المنطقة ، خصوصاً الرئيسية منها والتي تعتمد على

المحاورة الشعرية

مثل : التقاطيف، زيد، البدواني، الرديح ، وتتفق أصول تلك الألعاب على أمر رئيسي لتلك الألعاب وهي مفاتيح اللعب وهي عبارة عن مفردة واحدة قابلة للاشتقاق منها لتطويع لحن الغناء مثل : واحليه ، ياليحاني ، حيوم، يا ليحيومه ، ….الخ.

– أن شعر الكسرة يتميز بأنه سهل النظم وذو إيقاع سريع تطرب النفس لسماعه والتغني به ، لأنه يبعث على طرد الملل، والترويح على النفس وشحذ الهمم ، ولذلك نجد أهل تلك المنطقة من البحارة والمزارعين والجمالة ، يتغنون بشعر الكسرة خلال ممارسة أعمالهم وحرفهم اليومية .

ولدى نقاد الكسرة القدرة الفائقة على معرفة المنطقة التي تنتمي إليها الكسرة من كلماتها ، لأن لكل منطقة طابعاً خاصاً تخلعه على فنها وأشهر الكسرات الجيدة من وادي ينبع ووادي الصفراء ووادي فاطمة وما جاوره من أودية مثل خليص “ورابـغ ” وقديد والمدن الساحلية وما جاورها ” وليس هذا التحديد للحصر ، وإنما هو تحديد لأشهر المناطق التي تعرف هذا الفن “.

معنى اسم ” الكسرة “

وإذا رجعنا إلى أصل معنى “كسرة” فليس لها تعريف متفق عليه بين نقادها وعشقاها ، ولكن اصطلح الناس هذا المسمى لهذا الفن الذي يمكن أن نجتهد فنستنتج مما يدور في مجالسهم عنه ما يعنيه معنى ( كسرة ) فتقول : أن المعنى الذي تحمله هذه الكلمة إنما أخذ من أنها تدور حول معنى أو مضمون يراد ( تفسيره أو تكسيره ).

وعلى هذا يمكن اعتبار الكسرة تفسيرا لما يدور في خلد الشاعر أو تفكيكا لمضمونها ولما كان الأصل في ( الكسرة ) إلا تزيد عن بيتين ، فإننا نجد أحيانا أبياتا تصل إلى العشرة وعلى وزن الكسرة ويعدونها كسرة وهي ظاهرة جديدة مهما كان عمرها ، وترجع الزيادة هذه إلى رغبة الشاعر في الإيضاح .

تعريف بالكسرة

الكسرة مفردة والجمع كسرات ، وهي مثنيات شعرية ذات إيقاع موسيقي تتكون من بيتين شعريين مقفيين ، بحيث يكون صدر البيت على قافية واحدة وعجز البيت على قافية واحدة في جميع الأبيات الشعرية ، ويسمى صدر البيت أو عجز البيت بالغصن ، وعليه تصبح الكسرة من أربعة أغصان هي :

أصدر البيت الأول ويسمى الغصن الأول .

عجز البيت الأول ويسمى الغصن الثاني .

صدر البيت الثاني ويسمى الغصن الثالث .

عجز البيت الثاني ويسمى الغصن الرابع .

انتشار الكسرة الحجازية

ساهمت المهن والحرف التي يمتنها أهل تلك المنطقة في انتشار شعر الكسرة ، ووصولها إلى سكان المناطق الأخرى المجاورة لهم من خلال ممارسة تلك المهن ، خصوصاً فئتي البحارة والجمالة ، ولذلك كان من الطبيعي خلال قيام البحارة برحلات طويلة ومتعددة بواسطة السفن الشراعية على ساحل البحر الأحمر بشقيه الشرقي ، والغربي ، لممارسة الغوص ، ونقل البضائع والمسافرين بين تلك المواني ، وكذلك قيام الجمالة بنقل البضائع والمسافرين بين المناطق الداخلية ، أثر كبير في نقل شعر الكسرة إلى أهالي المناطق التي يصلون إليها، ولا غرابة أن يعجب الشعراء من أهل تلك المناطق بهذا اللون من الشعر ، ويمارسون النظم عليه ، ولا نبالغ إذا قلنا أنه في الوقت الحاضر نجد أن نظم شعر الكسرة يمتد على طول ساحل

البحر الأحمر

من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال ، وفي المناطق الداخلية .

من طرائف الكسرات الحجازية

تتسم الكسرة بتكثيف المعنى وإيجاز أبياتها بحيث لا تتجاوز البيتين ، وأبلغها ما لا يحمل أكثر من فكرة ، وتستعذب الكسرة في المراسلات بين الشعراء وفي التعبير عن مشاعر خاصة ، ومعان رفيعة ، ولأهمية بناء الكسرة قل في الماضي أن يطرقها من لا يجيد تقاليدها تهيباً من النقد واعترافاً بجدة التجربة ، ولمن رغب في مزيد من التفصيل يرجع إلى كتاب “ألف كسرة وكسرة” وكتاب “أهل الكسرة” جزءان وفي الكتابين تفاصيل ونماذج عن الكسرة .

ومما حمله لنا الرواة من طرائف الكسرات ونوادرها مما لم يسبق  طرحه هنا نماذج لا تخلو من العذوبة والتسرية عن النفس ، واستحضار مشاهد اجتماعية من حياة الناس في الماضي وعبر التحولات التي تمر بالمجتمعات .

ومن ذلك أن رجلا عاش في القرية صباه ، وعانى من شظف العيش فيها ثم انتقل إلى المدينة وعاش تقاليدها ونعومتها فترة من حياته ثم عاد إلى القرية ، وشق عليه أن يعانق هذه الحياة فقال :

في دياركم صرت انا ما أطيق

تركت مالي وماليّه

مشيت انا من السعة للضيق

واحفيت أقدام رجليه

فيجيبه عن تنكره لمراتع صباه شاعر آخر بقوله:

اسأل وفكّر عساك تفيق

وتنيّر الدار الاصلية

إنته تعلّمت جَنْي الريق

نسيت خبط الرتيعية

وهو يذكره بماضيه حينما كان يرعى البهم ويخبط الرتيعية ، وهي شجرة شوكية لا ترتفع عن الأرض كثيراً ، ويستخدمها أصحاب العنف الأسري لتقليب الأطفال على فروعها لمعاقبتهم وتأديبهم ، وكان الشاعر الأول ممن تعرض لذلك في صباه .

وقرأ أحدهم أشعار العذريين وكان في أسرة قروية فوقع قلبه في الحب , فزهد في الحياة ، وخلد إلى الراحة والعزلة مضنى يعاني لوعة الغرام متخليا عن واجباته الأسرية ملتمسا العذر من والده ، الذي قال له :

لا تحسب الحب دَنْدرمة

والاّحلاوة ثلاث اشكال

قم للبقر فت له ضرمة

حبلين والا ثلاث حبال

أما الذي لم يجد ما توخى من عطف من يحب وعدم التناغم معه ، حين تلقى منه صدمة عنيفة لم يجسدها حين عبر عنها بغير هذه الكسرة :

سيدي ضربني بجذبة جذع

جذبة ولا هو مسَلِّكْها

والله ضربني على آخر ضلع

واليا سموعي ما احرِّكْها

وهو تعبير عن القسوة والعنف في الرد.

أما الشاعر الذي لامه أصدقاؤه في محبه بأنه لا يستحق محبته ، فلا هو بالجميل ولا هو بالأنيق فأجابهم :

أحب سيدي وهو لابس

وأحب سيدي بجرموده

وان قالوا الناس ذا يابس

أشوف أخضر انا عوده

ويا أخي ما للناس وما يهوى الآخرون ألم يقل الشاعر :

تعشقتها شمطاء شاب وليدها

وللناس فيما يعشقون مذاهب ؟

وإذا قال أحد العلماء لجلسائه مازحاً : ” من لم يتزوج مصرية ما أحصن ” وحرف هذا النص إلى دمشقية ولبنانية وعراقية وحجازية ونجدية وتكرونية فكل محرف يعبر عما لقي أو عما أعجبه ، ولا لوم، ولكن شاعراً قرويا اضطر لمراجعة طبيب القرية وهناك وجد العناية الفائقة من إحدى الممرضات فقال :

يا ما رماني سهم واجنب

واليوم علق السهم فيّه

اللي رماني طفل ما انجب

يحمل صواريخ ذرية

كان ذلك مع اطلالة العصر الجديد، ظهور الصواريخ الذرية واستقدام الكوادر الطبية من الخارج ، وامتداد الرعاية الصحية إلى القرية ، وقول الشاعر طفل هو تعبير عن صغر سن الممرضة وتقدم سن الشاعر الذي بث شكواه إلى أصدقائه فتلك ظاهرة غير مألوفة في القرية أن يتلقى الناس العناية الصحية من فتاة جميلة مغتربة ، وكان رد ابن صديق ما يلي :

ما دمت شايب وهوّه شب

والفرق تسعين في المية

أشوف ماله لزم تنشب

إلاّ إذا كان مصرية

فهو عندها لا يلام .

ومن المداعبات الرقيقة انتقاد الشاعر من يتزوج من اثنتين ، فإن العدالة المطلوبة بينهما لن تتحقق لذا يقول الشاعر :

مغبون من يأخذ الثنتين

ليا مات ما يدخل الجنة

القلب ما ينقسم قسمين

واصل السبب كلها منّه

فيجيبه الشاعر الرقيعى معترضا :

ذا النص يا اللي حكمت من اين

خالفت الاحكام والسنة

من اجل ترضي سُوَيْد العين

تغيّر الحق وتكنه؟