شعر الغربة نزار قباني
تعد أعمال نزار قباني الشعرية من أهم البصمات الموجودة في تاريخ الأدب العربي والعلمي أيضًا، ولد نزار عام 1923م ، في دمشق بسوريا، حيث درس بكلية الحقوق بجامعة دمشق، ثم عمل بعدها بالسلك الدبلوماسي منذ عام 1945م ، ولقد كانت حياته ممتلئة بالترحال بين البلدان، لذلك انعكس ذلك في أشعاره التي امتلأت بالغربة والحنين للوطن، وتوفي نزار قباني عام 1998م بعد أن قدم لنا موسوعة شعرية جميلة ومتنوعة .
شعر الغربة لنزار قباني
لقد كانت الغربة الأولى لنزار قباني هي الحنين إلى بيت الطفولة بدمشق، فقد ترك ذلك بصمة واضحة في شعره، كما تركت اشبيلية وغرناطة في الشعر الأندلسي ، ويتجلى ذلك في القصيدة الدمشقية :
القصيدة الدمشقية
هذي دمشق.. وهذي الكأس والراح إني أحب… وبعـض الحـب ذباح
أنا الدمشقي.. لو شرحتم جسدي لسـال منه عناقيـدٌ.. وتفـاح
و لو فتحـتم شراييني بمديتكـم سمعتم في دمي أصوات من راحوا
زراعة القلب.. تشفي بعض من عشقوا وما لقلـبي –إذا أحببـت- جـراح
مآذن الشـام تبكـي إذ تعانقـني و للمـآذن.. كالأشجار.. أرواح
للياسمـين حقـوقٌ في منازلنـا وقطة البيت تغفو حيث ترتـاح
طاحونة البن جزءٌ من طفولتنـا فكيف أنسى؟ وعطر الهيل فواح
هذا مكان “أبي المعتز”.. منتظرٌ ووجه “فائزةٍ” حلوٌ و لمـاح
هنا جذوري.. هنا قلبي… هنا لغـتي فكيف أوضح؟ هل في العشق إيضاح؟
كم من دمشقيةٍ باعـت أسـاورها حتى أغازلها… والشعـر مفتـاح
أتيت يا شجر الصفصاف معتذراً فهل تسامح هيفاءٌ ..ووضـاح؟
خمسون عاماً.. وأجزائي مبعثرةٌ فوق المحيط.. وما في الأفق مصباح
تقاذفتني بحـارٌ لا ضفـاف لها وطاردتني شيـاطينٌ وأشبـاح
أقاتل القبح في شعري وفي أدبي حتى يفتـح نوارٌ… وقـداح
ما للعروبـة تبدو مثل أرملةٍ؟ أليس في كتب التاريخ أفراح؟
والشعر.. ماذا سيبقى من أصالته؟ إذا تولاه نصـابٌ … ومـداح؟
وكيف نكتب والأقفال في فمنا؟ وكل ثانيـةٍ يأتيـك سـفاح؟
حملت شعري على ظهري فأتعبني ماذا من الشعر يبقى حين يرتاح؟
شعر الغربة والحنين لنزار قباني
إن مظاهر الغربة تتجلى في صورة العزلة والقهر والسلب للحقوق، فتجربة الشعر نقلت إلينا تلك الأحاسيس، حتى أصبح الشعور بغربة الوطن هو هاجس نزار قباني ويتضح ذلك في قصيدة:
قصيدة تعريف غير كلاسيكي للوطن
وطني !!!
يفهمك السذج ريحاناً وراح
ويظنونك درويشاً يهز الرأس،
أو رقص سماح
ويظنونك في غفلتهم
نغمة من بزق ..
وقناني عرق ..
ومواويل تغنى للصباح ..
وطني!!!
يا أيها الصدر المغطى بالجراح
وطني !!!
مَن أنت؟ إن لم تنفجر
تحت إسرائيل صندوق سلاح
معنى الغربة عند نزار قباني
والغربة عند نزار قباني لا تقف عند حدود المكان أو العودة للوطن والشوق إليه، بل ترتبط بالعودة إلى الأجداد وما تركوه من أثر، ويظهر ذلك في تصويره لمشهد من شعر الغربة نزار قباني عما حدث بالأندلس في قصيدة:
قصيدة قراءة أخيرة على أضرحة المجاذيب
أرفضكم جميعكم
وأختم الحوار
لم تبق عندي لغة
أضرمت في معاجمي
وفي ثيابي النار ..
هربت من عمرو بن كلثوم ..
ومن رائية الفرزدق الطويلة
هاجرت من صوتي،
ومن كتاباتي ..
هاجرت من ولادتي ..
هاجرت من مدائن الملح
ومن قصائد الفخار ..
حملتُ أشجاري إلى صحرائكم
فانتحرتْ ..
من يأسها الأشجار
حملتُ أمطاري إلى جفافكم
فشحّتْ الأمطار
زرعتُ في أرحامكم قصائدي
فاختنقتْ ..
يا رَحِماً .. يحبل بالشوك والغبار
عندما كان نزار قباني في أميركا وشاهد مدى التقدم والتطور التكنولوجي لديهم الذي يسير بسرعة الصاروخ، بعكس العالم العربي، فتلك غربة أخرى تعبر عن مدى تأخر العالم العربي في اللحاق بعالم التكنولوجيا، ويعبر أيضًا عن غربته وسط مجتمع رأسمالي مادي وهو الشاعر الرومانسي، ويتضح ذلك عندما يتساءل في قصيدته:
قصيدة من أنا في أمريكا ؟
أعبر البحر إلى شاطئكم
باحثاً عن خاتم الحب الذي ضيعته
منذ خمسين سنة .
باحثاً عن شَعر بلقيس الذي ضيعته
منذ خمسين سنة .
وسؤالٌ واحد يقلقني
من أنا في أمريكا ؟
من أنا ..
في زمن الحاسوب .. و ( الروبوت ) ..
والقلب الصناعي .. وموسيقى ( مادونا ) ؟
من أنا في زمن ؟
يصنعون الحب فيه في عيادات الأطباء ..
فحب بالأنابيب ..
وجنس بالأنابيب ..
وثورات .. وضباط ..
يجيئون إلى السلطة من جوف الأنابيب ..
فماذا سيغني شاعر الحب هنا ؟؟
قصيدة صباح الخير أيها المنفى
ما عدتُ في المنفى أحس بغربة
أو وحشة ..
أو أشتكي هذا الرحيل القاسي
قد أصبح المنفى صديقي غاليا .
يأتي إلى المقهى معي .
يقرأ جرائده معي .
ويعد وجبات الطعام معي .
ويقيس بدلاتي .. وقمصاني ..
ويلبس نصف أحذيتي معي ..
ويحب آلاف النساء معي ..
ويمل من كل النساء معي ..
وينام ملء جفونه
وأنا أظل مع القصيدة صاحيا
لذلك يعد نزار قباني من أهم وأشهر الشعراء الذين عبروا لنا عن معنى الغربة بشكل مختلف ومميز للغاية، فالغربة ليست في البعد عن الوطن فقط، ولكن الغربة في الحرمان من حقوقك أو التأخر عن مواكبة تطور العصر أو الغربة عن أحلام الطفولة أو الغربة عن القدرة عن التعبير بحرية عن مشاعرنا.