قصة الشرارة التي أشعلت النار في قلب ” هدبة بن خشرم “
من
الشعر
ما قتل، على وزن ومن
الحب
ما قتل فحقًا إن الأفكار أو الكلمات يمكن أن تقتل أو تتسبب في القتل ويعتبر الشعر واحد من الكتابات الأدبية المؤثرة بدرجة كبيرة والتي يمكن أن تهيج المشاعر بدرجة كبيرة حتى تصل بها إلى الحد الذي يخرجها عن السيطرة، ولنا في قصة قتل المتنبى مثال واضح على ذلك إذ كان قد هجى رجلًا من بني أسد فخرج له جماعة من بني أسد لقتله وعندما علم بالأمر هرب فعندما رآه ابنه هاربًا قال له يا أبي وأين قولك، الخيل والليل والبيداء تعرفني***والسيف والرمح والقرطاس والقلم، فقال
المتنبي
لولده قتلتني يا ابن اللخناء، فرجع للمتربصين به وقاتل إلى أن قطعت رأسه، وغيره عدد من
الشعراء
.
هدبة بن خشرم
هو هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حيّة من بني عامر بن ثعلبة بن عبد للّه بن ذبيان بن الحارث، أما أمه فهى حيّة بنت أبي بكر ابن أبي حيّة من أقاربه الأدنين، وينتمي هدبة إلى جماعة من القوم يعيشون في بادية الحجاز، وكان هدبة شاعرًا فصيحًا في زمانه إلا أن عصبيته ولسانه أوديا به إلى القتل.
الشرارة التي أشعلت النار في قلب هدبة بن خشرم
بدأت القصة عندما كان مجموعة من القوم في طريقهم إلى
الحج
وكانوا آتين من
بلاد الشام
إلى
الحجاز
، وكان أتى معهم زيادة بن زيد وهو ينتمي إلى بني رقاش بن قرة وهدبة وأخته فاطمة تصحبه، فقام زياد بالتغزل بها، ولم يحفظ أدبه وتمادى زيادة في قوله عنها وغزله بها، مما أثار حفيظة هدبة ففعل مثله وتغزل في أخته أم خازم.
لم يتحمل زيادة ما قاله هدبة في أخته أم خازم فقام بسبه فرد عليه هدبة السباب وزاد الأمر بينهما، وهنا تدخل القوم المصاحبين لهم وحاولوا الفصل بينهما خوفًا من أن يشتد الشجار بينهما فيحدث ما لا تحمد عقباه، فانفصلوا إلا أن هدبة كان قد أوغر صدره ونقم كثيرًا على زيادة بسبب إحساسه بأن زيادة تفوق عليه إذ تغزل بأخته وهى حاضرة وسمعت ورأت ما حدث على عكس أم خازم التي لم تكن حاضرة، وبالفعل ابتعد الاثنان عن بعضهما إلى أن انتهى الحج وعادوا إلى مضاربهم.
أثرت تلك الحادثة على العلاقة بين الاثنين وأصبحت العداوة بينهما واضحة وظهرت بصورة جلية في المعارضات الشعرية بينهما وكان المتفوق بها غالبًا هدبة، ولكن رغم ذلك لم يشفى غليل هدبة وظل يتربص بزيادة إلى أن أتته الفرصة المناسبة فقام فتقاتلا وقتل زيادة.
تم القبض على هدبة وكان في تلك الفترة الوالي هو سعيد بن العاص ولم يشأ سعيد بن العاص أن يقوم بمهمة إصدار حكم
القصاص
فقام بإرساله إلى معاوية بن ابي سفيان الخليفة حتى ينظر في الأمر.
وقف الخصمان بين يدي الخليفة للحكم بينهما هدبة وعبدالرحمن أخو زيادة وقد أفاض عبدالرحمن في الاتهام حتى يوغر صدر الخليفة ضد هدبة، فسمح الخليفة لهدبة بالحديث فخيره هل يتحدث بالشعر أو كلامًا عاديًا فاختار الخليفة
الشعر
فقال هدبة :
رمينا فرامينا فصادف رمينا منايا رجال في كتاب وفي قــدر
وأنت أمير المؤمنين فمالنـا وراءك من معدى ولاعنك من قصر
فإن تك في أموالنا لم نضق بهـا ذراعاً وإن صبراً فنصبر للصبــر
هنا قال معاوية بأن شعرك اعترافا بالقتل، فرد هدبة أن نعم.
كان الدارج أن ينفذ القصاص ابن القتيل وقد كان لزيادة ولد يسمى المسور إلا أنه لم يبلغ الحلم بعد، فترتب على ذلك أن تم حبس هدبة إلى أن يبلغ المسور الحلم وقيل بأنه تم حبسه ثلاث سنوات وقيل خمس وقيل ست، وعندما بلغ الماسور الحلم تم اقتياد هدبة إلى الوالي سعيد بن العاص حتى ينفذ القصاص، وهو في الطريق شاهد زوجته وكانت امرأة جميلة فقال لها:
أقلي علي اللوم يا أم بوزعــا ولا تعجبي مما أصاب فأوجعـــا
ولا تنكحي إن فرق الدهر بيننا أغم القفــا والوجه ليس بأترعـا
وحلى بذي أكرومة وحمـية وصبرا إذا ما الدهر عض فأسرعــا
وعندما مثل بين يدي الوالي تحدثت زوجة هدبة فقالت إن لهدبة عندها أمانة فهل يسمح
القاضي
بالانتظار إلى تأتي له بأمانته، فقال لها الوالي فلتسرعي بإحضارها، فذهبت وتوجهت إلى جزار فأخذت السكين وقامت بقطع أنفها وشفتيها ثم عادت وقالت لهدبة (راني متزوجة بعد ماترى ؟ فقال هدبة : لا , الآن طابت نفسي بعد الموت ).
حاول الوالي سعيد حتى آخر لحظة أن يحصل لهدبة على
العفو
من أولياء الدم فبذل محاولة أخيرة قبل تنفيذ الحكم إلا أن عبد الرحمن أخو زيادة قال للوالي أنه كان من الممكن أن يعفو ويسامح هدبة في قتل أخيه زيادة بدية أو حتى بدون دية، إلا أن هدبة قال بيتًا من الشعر لن يستطيع عبدالرحمن أن يعفو عن هدبة بسببه ومهما حاول فهو سيذكر دائمًا قوله:
لنجدعن بأيدينا أنوفكمُ ويذهب القتل فيما بيننا هدرا
يمنعني هذا البيت من العفو عنه، وبالفعل تم تقديمه لتنفيذ القصاص وكم كان يبدو عليه الحسرة والندم ولكنه طلب أن يصلي ركعتين فصلى وحاول أن يخفف ولا يطيل حتى لا يقولوا بأنه يماطل حتى لا ينفذ القصاص، وهيهات أن يسكت لسان هدبة فقال بيته الأخير قبل التنفيذ:
فإن تقتــلوني في الحديد فإنني قتلت أخاكم مطلقاً لم يقيد
في محاول منه لإفساد أجواء القوم وإفساد أجواء النصر لديهم وبالفعل نفذ المسور القصاص في هدبة.
قيل أيضًا في تلك القصة بأنه تم عرض دية كبيرة على ابن القتيل حتى يعفو عن هدبة وبالفعل كاد أن يقبل إلا أنه أمه قالت له (أعطى الله عهدًا ، لئن لم تقتله لأتزوجنه فيكون قد قتل اباك ونكح امك)، فخاف أن تنفذ أمه تهديدها فقتله.