معنى ” الغاية تبرر الوسيلة ” و بعض الامثلة عليها
الغاية تبرر الوسيلة ، هذه المقولة ل ”
ميكافيلي
” مؤلف
كتاب الأمير
الذي مازال ، بعد خمسمائة عام ، يمثل قيمة فلسفة الحكم ، ويعمل كدليل لحكام الدول ، يقومون بتطبيقه عمليا وينكون ذلك علنا ، ويأتي في المقدمة ” الغاية تبرر الوسيلة” والمقصود منها أن مصلحة الدولة واستقرار النظام يبرر اللجوء إلى أي وسيلة عملية متاحة لتحقيق هذا الغرض ، بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية ، حتى إذا تضمن العنف والاعتداء على حرية الأفراد أو الجماعات أو حق الملكية الخاصة إذا كان هذا مهما لمصلحة الدولة .
الوسيلة عند الافراد والدول
لكن يوجد فرق في
السلوك
بين الأفراد والدول ، فبالنسبة للأفراد الأخلاق الحميدة تقتضي عدم ارتكاب أعمال مشينة لمصلحته الشخصية ، أما بالنسبة للدول ، فإن أصول الحكم تقتضي تحقيق المصلحة أولا وباستخدام جميع الوسائل المتاحة .
أمثلة عن الوسيلة عند الافراد والدول
تعتبر وسيلة مصادرة الأملاك الشخصية وسيلة سيئة ، لكن تستطيع الدولة ذلك ، بل من واجبها القيام بمصادرة املاك شخصية لتحقيق المصلحة العامة ، كما يمكنها هدم بيوت لتمرير شارع عام ، أو التجنيد الإجباري للمواطنين لكسب حرب ما ، أو التجسس لحماية الأمن ، أو التآمر لحماية المصلحة العليا للدولة ، أو الاعتداء على أراضي او سيادة الغير إذا لزم الأمر ، فليس هنا مكان لتطبيق الأخلاق المتعارف عليها بين الأفراد عندما يرتبط الأمر بالمصالح العليا للدولة .
إن تعاليم ميكافيلي ونصائحه مطبقة اليوم بجميع حذافيرها اليوم ، وهذا يبدو في التجسس على الحلفاء ، ارتكاب مذابح لتسهيل التطهير العرقي ، إلقاء القنابل الذرية على المدن الآهلة بالسكان ، وفرض عقوبات اقتصادية قاسية تصيب أضعف فئات المجتمع المستهدف فقط .
” الغاية تبرر الوسيلة ” من المنظور الشرعي
قد يظن البعض أن إباحة المحظورات يقتصر في حالتي الضرورة والإكراه فقط ، وحين تبلغه فتوى فيها تجويز لمخالفة حكم شرعي لمعنى معتبر يسارع إلى الإنكار والإغلاظ على المفتي ويتهمه بالتسيب وتمييع أحكام الدين ويقول: أين الإكراه أو الضرورة الملجئة التي يخشى معها الهلاك والتي يستباح معها المحرم .
لكن الحقيقة أن حالتي الضرورة والإكراه ليستا الوحيدتين اللتين يباح لأجلهما المحظور، بل هناك حالات أخرى أجاز فيها الشرع ارتكاب المحظور، من أهمها وأشملها حالة تعارض المصالح والمفاسد، بحيث لا يمكن تحقيق المصلحة العليا إلا بتفويت المصلحة الصغرى ولا يمكن درء المفسدة الكبرى إلا بارتكاب المفسدة الدنيا، ففي هذه الحالة تفوت المصلحة الصغرى، وترتكب المفسدة الدنيا ويرتفع الحرج الشرعي طلبا لما هو أهم.
ولا يشترط لجواز ارتكاب المحظور أن تكون الحالة حالة ضرورة أو إكراه، بل بمجرد أن يكون عدم ارتكاب المفسدة الصغرى موقعا في المفسدة الكبرى يصار إلى تجويز ارتكاب المحظور، وقد عبر أهل العلم عن تلك القاعدة بقاعدة «احتمال أخف الضررين» و «أهون الشرين» و «تُدفع المفسدة العظمى باحتمال أدناهما» و نحو ذلك من العبارات.
أمثلة على صحة معنى الغاية تبرر الوسيلة
– ما فعله الغلام الذي دل الملك على طريقة قتله في
قصة أصحاب الأخدود
، فقد استجاز مفسدة قتل نفسه من أجل مصلحة هداية الناس إلى الدين الحق.
– ما فعله الخضر عليه السلام عندما خرق السفينة؛ فقد كان في خرقه لها ضرر، ولكنه فعل ذلك ليدرأ ضرراً أشد.
– ومنها ما جاء في شأن القتال في
الأشهر الحرم
قال تعالى: ((يسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
فقد أنكر الكفار على المسلمين استباحة الأشهر الحرم والقتال فيها، فرد الله عليهم قائلاً: نعم: القتال فيها كبير الإثم والجرم, ولكن الاعتداء على المسلمين والإسلام بالصد عن سبيل الله وقتل المسلمين وفتنتهم في دينهم وإخراجهم من ديارهم, كل هذا وغيره أعظم مفسدة وأكبر جرماً عند الله من انتهاك حرمة الأشهر الحرم بالقتال فيها، وإذا كان كذلك فإن القتال فيها ضروري وواجب لدرء هذه المفاسد الكبيرة.
– ومن ذلك قصة
صلح الحديبية
، فالشروط في ظاهرها مجحفة، وفيها إدخال الضيم على المسلمين، وهذه مفسدة جعلت عمر رضي الله عنه يستشكل ذلك، لكنها احتملت لدفع مفسدة أعظم منها، وهي قتل المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا بمكة ولا يعرفهم أكثر الصحابة.
– ومن ذلك : نهيه سبحانه عن مسبة آلهة المشركين قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) ففي سب آلهتهم مصلحة، وهي تحقير دينهم وإهانتهم لشركهم بالله سبحانه، ولكن لما تضمن ذلك مفسدة أكبر وهي مقابلتهم السب بسب الله عز وجل نهى سبحانه عن سب آلهتهم درء لهذه المفسدة.
– ومن ذلك امتناعه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع أن الحكم الشرعي فيهم القتل خشية مفسدة أعظم وهي تحدث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه.
– ومن ذلك تركه صلى الله عليه وسلم الأعرابي الذي بال في المسجد، حتى يفرغ من بوله ؛ لأن في زجره وتعنيفه حال البول احتمال تنجيس المسجد كله، وبوله في مكان واحد تنجيس لجزء منه، فارتكب الضرر الأخف لدفع الأكبر منهما.
-ومنها تركه صلى الله عليه وسلم هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام خشية من افتتان ضعاف الإيمان وظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعظم الكعبة.
– ومن الأدلة على أن الغاية قد تبرر الوسيلة إجازة الشرع الكذب لمصلحة في الحالات التي نص عليها، وما يقاس عليها. وإجازته الغيبة إذا كانت المصلحة المترتبة عليها أعظم من مفسدة الوقوع فيها.
– والمتأمل في منهج الأئمة والفقهاء يرى بوضوح أن قضية الموازنة بين المصالح والمفاسد ما كانت تغيب عن بالهم أبدا في كل ما يصدر عنهم من فتاوى.
– فسيدنا علي رضي الله عنه امتنع عن الاقتصاص من قتلة
سيدنا عثمان
قبل استتباب الخلافة له لما كان سيترتب على ذلك من فتنة عظيمة واقتتال بين القبائل وسفك للدماء.
– والفقهاء حين قرروا وجوب الصبر على أئمة الجور من المسلمين وعدم الخروج عليهم، ووجوب التسليم والطاعة للحاكم المتغلب إنما قصدوا هذا المعنى.
– وحين فصلوا في ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنعوا منه في بعض الحالات إنما نظروا إلى ما يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة.
– وكذلك حين فصلوا في أحكام الجهاد ومنعوا منه عند عدم القدرة والاستطاعة إنما نظروا إلى ما يترتب على القتال في تلك الحالة من ضرر وأذى يلحق المسلمين.
– وحين تكلموا عن الحالات التي يجوز فيها هجر المسلم كانت أعينهم مصوبة على ما يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة.
نلاحظ في كل الأمثلة المتقدمة أمرين: الأمر الأول: أنه لأجل الغاية الأهم سوغت الوسيلة المحظورة، والأمر الثاني: أن إباحة المحظور فيها ليس محصورا بحالة الضرورة والإكراه، بل بمجرد أن يكون البقاء على الحظر الأول مفوتا لمصلحة أكبر، أو جالبا لمفسدة أشد، فإنه يعدل عن ذلك