تفسير الآية ” قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم “

قال الله تعالى { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ } [سورة التوبة: 53]

تفسير الآية القرطبي

فيه أربع مسائل:

الأولى: قال

ابن عباس

: نزلت في الجد بن قيس إذ قال ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به. ولفظ

{ أَنْفِقُوا }

أمر، ومعنى الآية: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل منكم. ثم بين جل وعز لم لا يقبل منهم فقال:

{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ }

فكان في هذا أدل دليل وهي:

الثانية: على أن أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة الملهوف لا يثاب عليها ولا ينتفع بها في الآخرة، بيد أنه يطعم بها في الدنيا. دليله ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه ؟ قال: «لا ينفعه، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين». وروي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها». وهذا نص.

ثم قيل: هل بحكم هذا الوعد الصادق لا بد أن يطعم الكافر ويعطى بحسناته في الدنيا أو ذلك مقيد بمشيئة الله المذكورة في قوله: { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ } [سورة الإسراء: 18] وهذا هو الصحيح من القولين، والله أعلم. وتسمية ما يصدر عن الكافر حسنة إنما هو بحسب ظن الكافر، وإلا فلا يصح منه قربة، لعدم شرطها المصحح لها وهو الإيمان. أو سميت حسنة لأنها تشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرا. قولان أيضا.

الثالثة: فإن قيل: فقد روى مسلم عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله، أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أسلمت على ما أسلفت من خير » قلنا قوله: « أسلمت على ما أسلفت من خير » مخالف ظاهره للأصول، لأن الكافر لا يصح منه التقرب لله تعالى فيكون مثابا على طاعته، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه، فإذا عدم الشرط انتفى صحة المشروط.

فكان المعنى في الحديث: إنك اكتسبت طباعًا جميلة في الجاهلية أكسبتك عادة جميلة في الإسلام. وذلك أن حكيمًا رضي الله عنه عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الإسلام وستين في الجاهلية، فأعتق في

الجاهلية

مائة رقبة وحمل على مائة بعير؟ وكذلك فعل في الإسلام. وهذا واضح. وقد قيل: لا يبعد في كرم الله أن يثيبه على فعله ذلك بالإسلام، كما يسقط عنه ما ارتكبه في حال كفره من الآثام. وإنما لا يثاب من لم يسلم ولا تاب، ومات كافرا.

وهذا ظاهر الحديث. وهو الصحيح إن شاء الله. وليس عدم شرط الإيمان في عدم ثواب ما يفعله من الخير ثم أسلم ومات مسلما بشرط عقلي لا يتبدل، والله أكرم من أن يضيع عمله إذا حسن إسلامه. وقد تأول الحربي الحديث على هذا المعنى فقال: « أسلمت على ما أسلفت »، أي ما تقدم لك من خير عملته فذلك لك. كما تقول: أسلمت على ألف درهم، أي على أن أحرزها لنفسه. والله أعلم.

الرابعة: فإن قيل: فقد روى مسلم عن العباس قال: قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: « نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح ». قيل له: لا يبعد أن يخفف عن الكافر بعض العذاب بما عمل من الخير، لكن مع انضمام شفاعة، كما جاء في أبي طالب. فأما غيره فقد أخبر التنزيل بقوله: { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [سورة المدثر: 48] وقال مخبرا عن الكافرين: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [سورة الشعراء: 100-101].

وقد روى مسلم عن

أبي سعيد الخدري

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: « لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه ». من حديث العباس رضي الله عنه: « ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار »

{ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ }

أي كافرين.