تفسير ” لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها “
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ • وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [سورة فاطر: 36-37]
تفسير الآيات ابن كثير :
لما ذكر تبارك وتعالى حال السعداء شرع في بيان ما للأشقياء، فقال:
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا }
، كما قال تعالى: { لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا } [الأعلى:13]، وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أما
أهل النار
الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون »، وقال عزَّ وجلَّ: { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [الزخرف:77]، فهم في حالهم يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى ذلك.
قال الله تعالى
: { لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا }
، كما قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [سورة الزخرف: 74-75]، وقال جلَّ وعلا: { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإسراء:97]، { فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } [النبأ:30]، ثم قال تعالى:
{ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ }
أي هذا الجزاء كل من كفر بربه وكذب بالحق
{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا }
أي ينادون فيها يجأرون إلى الله عزَّ وجلَّ بأصواتهم:
{ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ }
أي يسألون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا غير عملهم الأول، وقد علم الرب جل جلاله أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا{ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [سورة الأنعام: 28]، فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم، ولذا قال ههنا:
{ نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ }
أي أو ما عشتم في الدنيا أعماراً، لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟
وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد ههنا، فروي أنه مقدار سبع عشرة سنة هذا قول علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهما ، وقال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر، قد نزلت هذه الآية:
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ }
وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة، وقال وهب بن منبه
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ }
قال: عشرين سنة، وقال الحسن: أربعين سنة، وقال مسروق: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله عزَّ وجلَّ، وهذه رواية عن
ابن عباس
رضي الله عنهما.
وروى ابن جرير عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: العمر الذي أعذر الله لابن آدم
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ }
أربعون سنة، وهذا هو اختيار ابن جرير، ثم روي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله:
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ }
ستون سنة، فهذه الرواية أصح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضاً، لما ثبت في ذلك من الحديث عن
أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لقد أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله تعالى إليه، لقد أعذر الله تعالى إليه » [أخرجه الإمام أحمد وفي لفظ للنسائي « من عمّره الله تعالى ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر » ]
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعذر الله عزَّ وجلَّ إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة »، وفي رواية: « من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله عزَّ وجلَّ إليه في العمر » [ أخرجه ابن أبي حاتم والإمام أحمد ]. وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة، فالإنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم.
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله تعالى إلى عباده به، ويزيح عنهم العلل، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك » [ أخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حديث حسن غريب ].
وقوله تعالى:
{ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ }
روي عن ابن عباس وعكرمة وقتادة أنهم قالوا: يعني الشيب، وقال السدي وعبد الرحمن بن زيد: يعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ ابن زيد: { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم:56] وهذا هو الصحيح عن قتادة أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل، وهذا اختيار ابن جرير وهو الأظهر، لقوله تعالى: { لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [الزخرف:78] أي لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل فأبيتم وخالفتم، وقال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [الإسراء:15]، وقال تبارك وتعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ • قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ • وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [سورة الملك: 8-10] ، وقوله تعالى:
{ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ }
أي فذوقوا عذاب النار، جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعمالكم، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه، من العذاب والنكال والأغلال.