سبب نزول ” وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات “
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور: 55]
سبب نزول الآية:
يقول ابن كثير: قال أبو العالية في قوله تعالى:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}:
قال: كان النبي صل الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سراً، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله صل الله عليه وسلم : «لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حديدة» وأنزل الله هذه الآية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فأمنوا ووضعوا السلاح، وقال البراء بن عازب: نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد.
تفسير الآية ابن كثير:
هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة، ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا.
روى
الإمام مسلم
في صحيحه عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً» ثم تكلم النبي صل الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني، فسألت أبي ماذا قال رسول الله صل الله عليه وسلم ؟ فقال، قال: «كلهم من قريش»، وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادلاً، وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر، فإن كثيراً من أولئك لم يكن لهم من الأمر شيء؛ فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش يلون فيعدلون، وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة، ثم لا يشترط أن يكونوا متتابعين، بل يكون وجودهم في الأمة متتابعاً ومتفرقاً.
وقد وجد منهم أربعة على الولاء وهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم
علي رضي الله عنهم
، ثم كانت بعدهم فترة؛ ثم وجد منهم من شاء الله، ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى؛ ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله صل الله عليه وسلم، وكنيته كنيته، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً، وقد روي عن رسول الله صل الله عليه وسلم أنه قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً عضوضاً» [أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي].
وقال أبو العالية في قوله تعالى:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}:
فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فأمنوا ووضعوا السلاح، ثم إن الله تعالى قبض نبيه صل الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه، فأدخل عليهم الخوف، فاتخذوا الحجزة والشرط وغيَّروا فغيَّرَ بهم، وقال البراء بن عازب: نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد، وهذه الآية الكريمة، كقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:26].
وقوله تعالى:
{كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}:
كما قال تعالى عن
موسى عليه السلام
أنه قال لقومه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الأعراف:129]، وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص:5]، وقوله تعالى:
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ}:
كما قال رسول الله صل الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه: «أتعرف الحيرة؟» قال: لم أعرفها، ولكن قد سمعت بها، قال: «فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «نعم كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد».
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صل الله عليه وسلم قد قالها، وقال الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال، قال رسول الله صل الله عليه وسلم: «بشِّرْ هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب».
وقوله تعالى:
{يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}:
وفي الحديث: «يا
معاذ بن جبل
» قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: «هل تدري ما حق الله على العباد؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً» [الحديث من رواية الشيخين عن معاذ بن جبل]، وقوله تعالى:
{وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}:
أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك، فلما خرج عن أمر ربه وكفى بذلك ذنباً عظيماً، فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بأوامر الله عزَّ وجلَّ، وأطوعهم للّه كان نصرهم بحسبهم، أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب، وأيدهم تأييداً عظيماً، وحكموا سائر العباد والبلاد.
ولما قصّر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهروهم بحسبهم، ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صل الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة – وفي رواية حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وفي رواية «حتى يقاتلوا الدجال» وفي رواية «حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون» وكلها صحيحة ولا تعارض بينها.