تفسير الحديث القدسي “حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات”
قال أبو داود رحمه الله : حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال : “لما خلق الله الجنة قال لجبريل : اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال : أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ثم حفها بالمكاره ثم قال : يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال : أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، قال : فلما خلق الله النار قال يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال : أي رب وعزتك لا يسمع بها احد فيدخلها فحفها بالشهوات ثم قال : يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال : أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها”.
تفسير النووي للحديث :
قال النووي رحمه الله : في اللفظ “حفت” قال العلماء : هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي أوتيها صل الله عليه وسلم من التمثيل الحسن ومعناه : لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات والمواظبة عليها والصبر على مشاقها وكظم الغيظ والعفو الحلم والصدقة والإحسان إلى المسيء والصبر عن الشهوات ونحو ذلك، وأما الشهوات التي النار محفوفة بها فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر والزنا والنظر إلى الأجنبية واستعمال الملاهي ونحو ذلك، وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه لكن يكره الإكثار منها مخافة أن يجر إلى المحرمة، أو يقسو القلب أو ينشغل عن الطاعات أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للصرف فيها.
ما يستفاد من الحديث :
أراد الله تعالى أن يبين لنا كم هي الجنة غالية لا يمكن الوصول إليها إلا بالمرور بطريق مليء بالتجارب المؤلمة والحزينة والاختبارات حتى يصل الإنسان إليها فيفرح بها قلبه وتسكن لها نفسه وينال فيها السعادة الأبدية، فقد قال في كتابه الكريم :
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
{آل عمران: 15}.
وكذلك بين لنا أن النار رخيصة والطريق إليها مليء بالشهوات الدنيوية التي تعف عنها النفس البشرية بفطرتها السليمة، وما أن تقع فيها تبدأ على خطى بسيطة تتحسس طريق النار حتى تذل قدمها داخلها على الرغم من التنبيه والتحذير منها إلا أن الشهوات تضل الأنفس الضعيفة، وقد ذكر الإمام النووي ان المقصود بالشهوات في الحديث هي الشهوات المحرمة وليست الشهوات المباحة مثل :
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}
{آل عمران: 14}، والتي أوضح أنه يجب الاعتدال فيها وعدم الانغماس فيها وترك الطاعات حتى لا تجره إلى حرام، لذلك يجب على كل مسلم ومسلمة تحمل مشقات الحياة واختباراتها بقدر من الرضا والتحمل والصبر والبعد عن شهوات الدنيا المحرمة وعدم ارتكاب المعاصي والاعتدال كل الاعتدال فيما حلل الله للفوز بالسعادة الأبدية في الجنة والبعد كل البعد عن النار.