السينما تكشف سر مريض في الغيبوبة
ساهم أحد الأفلام لمخرجه الشهير “ألفريد هيتشكوك” في التأكيد على ان مريضا في حالة شبه غيبوبة منذ ما يقارب 16 عاما، كان واعيا طيلة تلك الفترة. و يبين هذا الحدث أنه قد يكون هناك الكثير الذي يجب على علم الأعصاب استفادته من السينما، ذالك الفن العتيق الذي يعمل على حكاية قصص و حكايات، حسب تصريح الكاتب “توم ستافورد”. و كما يعلم الجميع، فإن الإنسان بمجرد فقدانه لوعيه نتيجة إصابة لحقت به في الدماغ، تعني مباشرة غيبوبة المريض. و لكن ما لا يعلمه أغلبية الناس أن هناك حالات مرضية شبيهة بالغيبوبة أو تقترب منها في اعراضها، يستطيع فيها المصابين أن يبقوا عيونهم مفتوحة، لكن لا تصدر منهم أي إشارة على شعورهم بما يحصل حولهم.
فأولئك المصابون بحالة “الخضرية” أو ما يسمى “متلازمة اليقظة الغير الواعية و التي لا تكون فيها استجابات” ، يظهرون انهم مستيقظون و احيانا ينامون ، ولكن لا يصدر عنهم رغم وعيهم أي رد فعل على ما يحدث من حولهم. أما أولئك الذين تبدو استجاباتهم غير منتظمة ، كأن يحركوا جفونهم عند المناداة بإسمهم، أو أن تتبع عيونهم شخصا يمر بجانبهم، فيوصفون على انهم في حالة ما يسمى “حالة وعي في حدها الأدنى”. و لا يظهر من مرضى النوعين أي دليل على محاولتهم التصرف إراديا بوعي، أو تفاعل مستمر مع الوسط المحيط بهم.
و إلى وقت قريب، لم يكن هناك أية طريقة لمعرفة مدى وعي هذا النوع من المرضى لا على المستوى الداخلي ولا على طبيعة و حقيقة وعيهم. و ما يسبب القلق هنا هو أن هؤلاء المرضى يمكن أن يكونوا واعين ولكن غير قادرين على إظهار ذلك، تماما كما يحدث للمصابين بما يسمى “متلازمة المنحبس” التي تحدث عند الإصابة بسكتة دماغية، و هي الحالة التي تجعل المصاب غير قادر على الاتصال الشفهي مع المحيط رغم انه واع و مستيقظ. أما في الحالة الآخرى التي لا تشبه سابقاتها، فهي عندما يكون المرضى فاقدين للوعي تماما كمن يعانون من الغيبوبة العميقة ، و لكن يوجد هناك صلة واحدة تربطهم بوعيهم، حيث تبقى أعينهم مفتوحة ، كما تصدر منهم استجابات محدودة جدا بطريقة تلقائية و عفوية. وفي آخر عشر سنوات الماضية، قام الخبير في مجال علم الأعصاب الإدراكي “أدريان أوين” بإجرائها، تغيرت عدة مفاهيم في هذه الجوانب المتعلقة بوعينا الإنساني.
دراسة عبر فيلم هيتشكوك
فقد أصبحت هناك إشارة مقتبسة من فحوص تمت على الدماغ بالأشعة إلى أن ثمة إدراكا واعيا عند ما يعادل 20 في المئة من الأشخاص الذين يصابون بما يسمى “الغيبوبة المتيقظة”. فبمجرد أن يطلب من هؤلاء أن يتخيلوا أنهم يقومون بلعب التنس، فإن ذلك ينشط المناطق في المخ المسؤولة عن التحكم في الحركة. أما إذا طلبت منهم تحديد حركاتهم داخل المنزل، فإن ذلك ينشط المساحات الموجودة في المخ المسؤولة عن التجوال و تحديد الطرق. و حسب دراسة حديثة قامت بها باحثة في مرحلة ما بعد الدكتوراه “لورينا ناسي” في المختبر الذي يعمل فيه الباحث “أدريان أوين”، حيث قامت باستعمال فيلم سينمائي لإظهار مدى التقدم الذي يمكن أن يبلغه مستوى الإدراك الواعي عند مريض بحالة “تدني الوعي إلى أقصى حد” و كانت الحيلة عبارة عن ثماني دقائق تم اقتباسها من فيلم “انت ميت” الذي قام بإخراجه هيتشكوك سنة 1961 في إطار سلسلة “ألفريد هيتشكوك يقدم”.
و في هذا الفيلم، يظهر طفل ذو الخامسة من العمر وهو يجول حاملا لعبة على شكل مسدس ، و يقوم بتصويبها على كل من حوله بل و تسمع الطلقة كذلك. و لكن في احد الأيام و دون علمه او علم الأشخاص الذين يصوب سلاحه عليهم، عثر الطفل على سلاح حقيقي، في داخله رصاصة حية. و قد حقق هذا الفيلم نجاحا كبيرا بسبب تلك المعلومة التي لا تعلمها شخصياته بينما يعلمها المشاهد. و لأننا نعلم بوجود سلاح حقيقي و رصاصة حية، تصبح مشاهدتنا المعتادة للطفل حدثا مثيرا و مشحونا بالتشويق، و ذلك لانه يورط أشخاصا بشكل عفوي في هذا الموقف المثير أشخاص لا يتوقعون الشر منه في كل مرة و تظهر الاحداث كما لو كان شوطا مميتا من أشواط لعبة “الروليت الروسي”.
نتيجة الدراسة
و أثناء الدراسة عرضت ناسي المقاطع التي اختارتها على أشخاص متطوعين غير مرضى، ثم عرضت على مجموعة اخرى مقاطع مختلطة من الاحداث تم ترتيبها و لا تتجاوز الواحدة منها ثانية واحدة. و قد تميزت النسخة المعروضة الثانية بكونها تتضمن نفس الأحداث و الاماكن لكنها تفتقر للعنصر الترابطي و عدم معرفة المشاهد بوجود سلاح حقيقي في المشهد و هو الذي يثير التشويق. ثم قامت باجراء أشعة لدماغ كل من المجموعتين و مقارنة تأثير كل نسخة على المجموعة التي شاهدتها، فاستخلصت إلى أن النسخة المترابطة أثارت أجزاء من القشرة المخية لمن شاهدوها، و كذا مناطق مسؤولة عن الحركة و الذاكرة و مشاعر الترقب.
وبالطبع لم يكن ليحصل هذا في دماغ الأشخاص إلا إذا كانوا واعيين بالطابع الدرامي المثير و تسلسل الاحداث، ثم تم عرض الفيلم على مريضين بمتلازمة “الغيبوبة المتيقظة”، فأدى ذلك لدى الاول إلى نشاط “القشرة السمعية” دون أي استجابة أخرى في المناطق الحسية للدماغ، بينما لم تصدر أي إشارة لدى المريض الثاني الذي يعالج منذ 16 عاما لكن الإستجابة تشابهت مع الاستجابة المخية الصادرة لدى الأشخاص الواعين خلال تتبع الاحداث، مما يعني وجود وعي كاف لتتبع الاحادث.
و يظهر مكمن العبقرية في الدراسة التي قدمت هنا في إدراك الباحثين أنه يتعين على المرء استخدام محفز ثري و معقد كأفلام السينما إذا ما أرادوا التعرف على مدى سعة إدراك وعي مريض ما يبدو أنه لا يستجيب لأي محاولات علاج أو تواصل بدل استخدام الوسائل البصرية و السمعية النمطية.