معاد من الأيام تعذيبنا بها – الشاعر البحتري

مُعَادٌ مِنَ الأيّامِ تَعْذِيبُنَا بِهَا،

وإبْعَادُها بالإلْفِ بَعْدَ اقتِرَابِهَا

وَمَا تُملأُ الآمَاقُ مِن فَيْضِ عَبرَةٍ،

وَلَيْسَ الهَوَى البادي لفَيضِ انسِكَابِهَا

غَوَى رأيُ نَفْسٍ لا تَرَى أنّ وَجدَها

بتِلْكَ الغَوَاني شُقّةٌ مِنْ عَذابِهَا

وَحَظُّكَ مِنْ لَيْلَى، وَلاَ حظَّ عندَهَا،

سوَى صَدّها من غادَةٍ، واجْتِنَابِهَا

يُفاوِتُ مِنْ تأليفِ شَعبي وَشَعْبِهَا

تَنَاهَي شَبَابي، وابتِدَاءُ شَبَابِهَا

عَسَى بِكَ أنْ تَدنو منَ الوَصْلِ، بعدما

تَبَاعَدْتَ مِنْ أسبابِه، وعَسَى بها

هَيَ الشّمسُ إلاّ أنّ شَمساً تَكَشّفَتْ

لمُبْصِرِها، أوْ أنّهَا في ثِيَابِهَا

متى تَستَزِدْ فَضْلاً منَ العُمْرِ تعترِفْ

بسَجلَيْكَ من شَهْدِ الخُطوبِ وَصَابِهَا

تَشُذُ بِنَا الدُّنْيَا بأخْفَضِ سَعْيِها،

وَغُولُ الأفاعي بَلّةٌ مِنْ لُعَابِهَا

يُسَرُّ بعُمْرانِ الدّيَارِ مُضَلَّلٌ،

وَعُمْرَانُهَا مُسْتَأنَفٌ من خَرَابِهَا

وَلَمْ أرْتَضِ الدّنْيَا، أوَانَ مَجيئِها،

فكَيفَ ارْتِضَائِيهَا أوَانَ ذَهَابِهَا

أقُولُ لمَكذوبٍ عَنِ الدّهرِ زَاغَ عَن

تَخَيُّرِ آرَاءِ الحِجَا، وانتِخابِهَا

سَيُرْديكَ أوْ يُتويكَ أنّكَ مُخلَسٌ

إلى شُقّةٍ يُبليكَ بُعدُ مَآبِهَا

وَهَلْ أنتَ في مَرْسُومَةٍ طَالَ أخذُها

منَ الأرضِ، إلاّ حَفْنَةٌ مِنْ تُرَابِهَا

يُدِلُّ بمِصْرٍ، والحَوَادِثُ تَهْتَدي

لمِصْرٍ، إذا ما نَقّبَتْ عَنْ جَنَابِهَا

وَمَا أنْتَ فيها بالوَليدِ بنِ مُصْعَبٍ،

زَمَانَ يُعَنّيهِ ارتِيَاضُ صِعَابِهَا

وَلاَ بِسِنَانِ بنِ المُشَلِّلِ، عِنْدَما

بَنَى هَرَمَيْهَا مِنْ حِجَارَةِ لابِهَا

مُلُوكٌ تَوَلّى صَاعِدٌ إرْثَ فَخْرِها،

وَشَارَكَهَا في مُعْلِياتِ انتِسَابِهَا

رَعَى مَجْدَها عِن أنْ يَضِيعَ سَوَامُهُ،

وَحِفْظُ عُلا المَاضِينَ مِثلُ اكْتِسَابِهَا

أكانَتْ لأيْدي المُخْلَدِيّينَ شِرْكَةٌ

مَعَ الغَادِيَاتِ، في مَخيلّ سَحَابِهَا

تَزِلُّ العَطَايَا عَنْ تَعَلّي أكُفّهِمْ،

زَليلَ السّيُولِ عَن تَعَلّي شِعَابِهَا

إذا السَّنَةُ الشّهباءُ أكْدَتْ تَعَاوَرُوا

سُيُوفَ القِرَى فيهِنّ شِبعُ سِغَابِهَا

يَمُدُّونَ أنْفَاسَ الظّلالِ عَلَيْهِمِ

بأبْنِيَةٍ تَعْلُو سُمُوكُ قِبَابِهَا

فَكَمْ فَرّجُوا مِنْ كُرْبَةٍ، وَتَغَوّلَتْ

مَشاهِدُهُمْ مِنْ طَخْيَةٍ وَضَبَابِها

بمَلْمُومَةٍ، تحتَ العَجاجِ، مُضِيئَةٍ،

تَحُوزُ الأعادي خَطفَةٌ مِنْ عُقابِها

وأبْطالِ هَيْجٍ، في اصْفِرَارِ بُنُودِهَا

ضُرُوبُ المَنَايَا وابيِضَاضِ حِرَابِهَا

تُرَشّحُهَا نَجْرَانُ في كُلّ مأزِقٍ،

كمَا رَشّحَتْ خَفّانُ آسَادَ غَابِهَا

أرَى الكُفْرَ والإنْعَامَ قَد مَثّلا لَنَا

إبَاقَ رِجَالٍ، رِقُّه في رِقَابِهَا

فكم آمل قد عض كفا ندامة

على العكس من آماله وانقلابها

فأما قنعتم بالأباطيل فاربعوا

على صرها اوحادكم واختلابها

إذا الله أعْطَاهُ اعْتِلاَءَةَ قُدْرَةٍ،

بكَتْ شَجوَهَا أوْ عُزّيَتْ عن مُصَابِهَا

إذا مَذْحِجٌ أجرَتْ إلى نَهجِ سُؤدَدٍ،

فَهَمُّكَ مِن دأبِ المَساعي وَدابِهَا

كَنَيْنَا وأمّرْنا، وَغُنْمُ يَدَيْكَ في

تَرَادُفِ أيّامِ العُلا، واعتِقَابِهَا

وَمَا زَالَتِ الأذْوَاءُ فينَا، وَكَوْنُهَا

لِحَيٍّ سِوَانَا مِنْ أشَقّ اغْتِرَابِهَا

وَجَدْنَا المُعَلّى كالمُعَلّى، وَفَوْزُهُ

بغُنْمِ القِداحِ واحتِيَازِ رِغَابِهَا

وَفي جُودِهِ بالبَحرِ، والبَحرُ لوْ رَمَى

إلى سَاعَةٍ منْ جُودِهِ ما وَفَى بِهَا

عَقيدُ المَعالي، ما وَنَتْ في طِلاَبِهِ

لِتَعْلَقَهُ ولاّ وَنَى في طِلاَبِهَا

تَنَاهَى العِدى عَنهُ، وَرُبّتَ قَوْلَةٍ

أبَاهَا على البَادي حِذَارُ جَوَابِهَا

إذا طَمِعَ السّاعُونَ أنْ يَلْحَقُوا بهِ،

تَمَهَّلَ قابَ العَينِ، أوْ فَوْتَ قابِهَا

إذا ما تَرَاءَتْهُ العَشِيرَةُ طالِعاً

عَلَيْها، جَلَتْ طَلْمَاءَها بشِهَابِهَا

وإنْ أنْهَضَتْهُ كافِئاً في مُلِمّةٍ

من الدّهْرِ، سلّتْ سَيفَها من قِرَابِهَا

إذا اصْطَحَبَتْ آلاؤهُ غَطّتِ الرُّبَى،

وَحُسْنُ اللآلي زَائِدٌ في اصْطِحَابِهَا

وَمَا حَظَرَ المَعروفَ إيصَادُ ضِيقَةٍ

من الدّهرِ، إلاّ كُنتَ فاتحَ بابِهَا

أبَا صَالحٍ! لا زِلْتَ وَاليَ صَالِحٍ

منَ العَيْشِ، والأعداءُ تَشجى بما بِهَا