قصيدة عن الأب والأم

ابن الجوزي

زر والديك وقف على قبريهما

فكأنني بك قد نقلت إليهما

لو كنت حيث هما وكانا بالبقا

زاراك حبوا لا على قدميهما

ما كان ذنبهما إليك فطالما

منحاك نفس الود من نفسيهما

كانا إذا سمعا أنينك أسبلا

دمعيهما أسفا على خديهما

وتمنيا لو صادفا بك راحة

بجميع ما يحويه ملك يديهما

فنسيت حقهما عشية أسكنا

تحت الثرى وسكنت في داريهما

فلتلحقنهما غداً أو بعده

حتما كما لحقا هما أبويهما

ولتندمن على فعالك مثلما

ندما هما ندما على فعليهما

بشراك لو قدمت فعلاً صالحا

وقضيت بعض الحق من حقيهما

وقرأت من أي الكتاب بقدر ما

تسطيعه وبعثت ذاك إليهما

فاحفظ حفظت وصيتي واعمل بها

فعسى تنال الفوز من بريهما

بر الوالدين

قِمَّةُ الوُجْدَانِ بِرُّ الوالدَينْ

فَرْضُ عَيْنٍ مِنْ إلَهِ العَالمِينْ

ذِكْرُهُ يُتْلَى بقُرآنٍ كَريمْ

جَاءَ بالإيحَاءِ مِنْ وَحْيِ الأمينْ

دينُنَا أوْصَى بأنْ نَرْعَاهُما

والوَفَا حَقٌّ كَدَينٍ للمَدينْ

اصْنَعِ الخَيراتِ وارْحَمْ ضَعْفَهُمْ

وَاسْعَ في إرْضَائِهِمْ في كُلِّ حينْ

اذْكُرِ الإجْهَادَ في حَمْلٍ أليمْ

مَرَّ كُرْهَاً في عَذَابٍ بالأنِينْ

كُنْتَ فِي جَهْلٍ وغَيْبٍ عَنْ وُجُودْ

كُنْتَ في خَلْقٍ بتَطْويرِ الجَنينْ

اذْكُرِ الإرْضَاعَ مِنْ أمٍّ حَنُونْ

عَينُهَا في لَهْفَةٍ طُولَ السِّنينْ

كُنْتَ مَحْميَّاً بعَينِ الوالدَينْْ

سُهْدُ عَينٍ شَاهِدٌ عَنْهُ الجُفُونْ

واذْكْرِ الأبَّ العَطُوفَ المُرْشِدَا

إنَّهُ لَيثٌ بدَارٍ كالعَرينْ

بَاكِراً في سَعْيِهِ مِثْلَ الصُّقُورْ

جَاعِلاً مِنْ بَيتهِ الحِصْنَ الحَصينْ

مُتْعَبَاً في هَمِّهِ لا يَشْتَكي

في نَشَاطٍ دَائِمٍ لا يَسْتَكينْ

رَاجِيَاً مِنْ ربِّهِ الرِّزقَ الوَفيرْ

يَعْبُدُ الخَلاّقَ في نُورِ اليَقينْ

كُنْ وَدُودَاً، كُنْ عَطوفَاً يا بُنَيْ

كُنْ وَفِيَّاً، كُلُّ إثْمٍ في الخَؤُنْ

قَبِّلِ الأيْدِيَ في خَفْضِ الجَنَاحْ

واذْكُرِ الإنْسَانَ مِنْ مَاءٍ وَطِينْ

جَنَّةُ الرَّحْمَنِ تَجْثُو عِنْدَهُمْ

تَحْتَ أقْدَامٍ لأمٍّ قدْ تَكُونْ

فَاغْتَنِمْ ما مُمْكِنَاً واحْرِصْ عَلَى

بِرِّهِمْ في وُدِّهِمْ قبْلَ المَنُونْ

أبي

أماتَ أَبوك؟

ضَلالٌ! أنا لا يموتُ أبي

ففي البيت منه

روائحُ ربٍّ وذكرى نَبي

هُنَا رُكْنُهُ تلكَ أشياؤهُ

تَفَتَّقُ عن ألف غُصْنٍ صبي

جريدتُه، تَبْغُهُ، مُتَّكَاهُ

كأنَّ أبي بَعْدُ لم يّذْهَبِ

وصحنُ الرمادِ، وفنجانُهُ

على حالهِ، بعدُ لم يُشْرَبِ

ونَظَّارتاهُ أيسلو الزُجاجُ

عُيُوناً أشفَّ من المغرب؟

بقاياهُ، في الحُجُرات الفِساحِ

بقايا النُسُور على الملعبِ

أجولُ الزوايا عليه، فحيثُ

أمرُّ، أمرُّ على مُعْشِبِ

أشُدُّ يديه أميلُ عليهِ

أُصلِّي على صدرهِ المُتْعَبِ

أبي لم يَزلْ بيننا، والحديثُ

حديثُ الكؤوسِ على المَشرَبِ

يسامرنا، فالدوالي الحُبالى

تَوَالَدُ من ثغرهِ الطَيِّبِ

أبي خَبَراً كانَ من جَنَّةٍ

ومعنى من الأرْحَبِ الأرْحَبِ

وعَيْنَا أبي ملجأٌ للنجومِ

فهل يذكرُ الشَرْقُ عَيْنَيْ أبي؟

بذاكرة الصيف من والدي

كرومٌ، وذاكرةِ الكوكبِ..

أبي يا أبي إنَّ تاريخَ طيبٍ

وراءكَ يمشي، فلا تَعْتَبِ

على اسْمِكَ نمضي، فمن طّيِّبٍ

شهيِّ المجاني، إلى أطيبِ

حَمَلْتُكَ في صَحْو عَيْنَيَّ حتى

تَهيَّأ للناس أنِّي أبي

أشيلُكَ حتى بنَبْرة صوتي

فكيف ذَهَبْتَ ولا زلتَ بي؟

إذا فُلَّةُ الدار أعطَتْ لدينا

ففي البيت ألفُ فمٍ مُذْهَبِ

فَتَحْنَا لتمُّوزَ أبوابَنا

ففي الصيف لا بُدَّ يأتي أبي

خمس رسائل إلى أمي

صباحُ الخيرِ يا حلوه

صباحُ الخيرِ يا قدّيستي الحلوه

مضى عامانِ يا أمّي

على الولدِ الذي أبحر

برحلتهِ الخرافيّه

وخبّأَ في حقائبهِ

صباحَ بلادهِ الأخضر

وأنجمَها، وأنهُرها، وكلَّ شقيقها الأحمر

وخبّأ في ملابسهِ

طرابيناً منَ النعناعِ والزعتر

وليلكةً دمشقية

أنا وحدي

دخانُ سجائري يضجر

ومنّي مقعدي يضجر

وأحزاني عصافيرٌ

تفتّشُ بعدُ عن بيدر

عرفتُ نساءَ أوروبا

عرفتُ عواطفَ الإسمنتِ والخشبِ

عرفتُ حضارةَ التعبِ

وطفتُ الهندَ، طفتُ السندَ، طفتُ العالمَ الأصفر

ولم أعثر

على امرأةٍ تمشّطُ شعريَ الأشقر

وتحملُ في حقيبتها

إليَّ عرائسَ السكّر

وتكسوني إذا أعرى

وتنشُلني إذا أعثَر

أيا أمي

أيا أمي

أنا الولدُ الذي أبحر

ولا زالت بخاطرهِ

تعيشُ عروسةُ السكّر

فكيفَ فكيفَ يا أمي

غدوتُ أباً

ولم أكبر؟