ديوان أبو العتاهية
أبو العتاهية هو إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني، من أكثر الشعراء إبداعاً في العصر العباسي، فقد كان سريع الخاطر، وكانت لأشعاره رونقاً خاص لتميزها بسهولة الكلمات وبساطة المعاني، لهذا نورد لكم بعضاً من ديوان أبو العتاهية.
ديوان أبو العتاهية
ألا لله أنت متى تتوب
ألا لله أنت متى تتوب
وقد صبغت ذوائبك الخطوب
كأنّك لست تعلم أي حثّ
يحثّ بك الشّروق كما الغروب
ألست تراك كلّ صباح يوم
تقابل وجه نائبة تنوب
لعمرك ما تهبّ الرّيح إلاّ
نعاك مصرّحاً ذاك الهبوب
ألا لله أنت فتى وكهلاً
تلوح على مفارقك الذّنوب
هو الموت الذي لا بدّ منه
فلا يلعب بك الأمل الكذوب
وكيف تريد أن تدعى حكيماً
وأنت لكلّ ما تهوى ركوب
وتصبح ضاحكاً ظهراً لبطن
وتذكر ما اجترمت فما تتوب
أراك تغيب ثمّ تؤوب يوماً
وتوشك أن تغيب ولا تؤوب
أتطلب صاحباً لا عيب فيه
وأيّ النّاس ليس له عيوب
رأيت النّاس صاحبهم قليل
وهم، واللّه محمود، ضروب
ولست مسمياً بشراً وهوباً
ولكنّ الإله هو الوهوب
تحاشى ربّنا عن كلّ نقص
وحاشا سائليه بأن يخيبوا
لعمرك ما الدنيا بدار بقاء
لعمرك ما الدّنيا بدار بقاء
كفاك بدار الموت دار فناء
فلا تعشق الدّنيا، أخيّ، فإنّما
يرى عاشق الدّنيا بجهد بلاء
حلاوتها ممزوجة بمرارة
وراحتها ممزوجة بعناء
فلا تمش يوماً في ثياب مخيلة
فإنّك من طين خلقت وماء
لقلّ امرؤ تلقاه لله شاكراً
وقلّ امرؤ يرضى له بقضاء
وللّه نعماء علينا عظيمة
ولله إحسان وفضل عطاء
وما الدهر يوماً واحداً في اختلافه
وما كلّ أيام الفتى بسواء
وما هو إلاّ يوم بؤس وشدة
ويوم سرور مرّة ً ورخاء
وما كلّ ما لم أرج أحرم نفعه
وما كلّ ما أرجوه أهل رجاء
أيا عجبا للدهر لا بل لريبه
يخرّم ريب الدّهر كلّ إخاء
وشتّت ريب الدّهر كلّ جماعة
وكدّر ريب الدّهر كلّ صفاء
إذا ما خليلي حلّ في برزخ البلى
فحسبي به نأياً وبعد لقاء
أزور قبور المترفين فلا أرى
بهاءً، وكانوا، قبل،أهل بهاء
وكلّ زمان واصل بصريمة
وكلّ زمان ملطف بجفاء
يعزّ دفاع الموت عن كلّ حيلة
ويعيا بداء الموت كلّ دواء
ونفس الفتى مسرورة بنمائها
وللنقص تنمو كلّ ذات نماء
وكم من مفدًّى مات لم ير أهله
حبوه، ولا جادوا له بفداء
أمامك، يا نومان، دار سعادة
يدوم البقا فيها، ودار شقاء
خلقت لإحدى الغايتين، فلا تنم
وكن بين خوف منهما ورجاء
وفي النّاس شرّ لو بدا ما تعاشروا
ولكن كساه الله ثوب غطاء
أشدّ الجهاد جهاد الهوى
أشدّ الجهاد جهاد الهوى
وما كرّم المرء إلاّ التّقى
وأخلاق ذي الفضل معروفة
ببذل الجميل وكفّ الأذى
وكلّ الفكاهات مملولة
وطول التّعاشر فيه القلى
وكلّ طريف له لذّة
وكلّ تليد سريع البلى
ولا شيء إلاّ له آفة
ولا شيء إلاّ له منتهى
وليس الغنى نشب في يد
ولكن غنى النّفس كلّ الغنى
وإنّا لفي صنع ظاهر
يدلّ على صانع لا يرى
أيا إخوتي آجالنا تتقرّب
أيا إخوتي آجالنا تتقرّب
ونحن مع الأهلين نلهو ونلعب
أعدّد أيّامي وأحصي حسابها
وما غفلتي عمّا أعدّ وأحسب
غداً إنّا من ذا اليوم أدنى إلى الفنا
وبعد غد إليه أدنى وأقرب
نصبت لنا دون التّفكّر يا دنيا
نصبت لنا دون التّفكّر يا دنيا
أمانيّ يفنى العمر من قبل أن تفنى
متى تنقضي حاجات من ليس واصلاً
إلى حاجة حتى تكون له أخرى
لكلّ امرىء فيما قضى الله خطّة
من الأمر فيها يستوي العبد والمولى
وإنّ أمرءًا يسعى لغير نهاية
لمنغمس في لجّة الفاقة الكبرى
لله أنت على جفائك
لله أنت على جفائك
ماذا أومل من وفائك
إنّي على ما كان منك
لواثق بجبيل رأيك
فكّرت فيما جفوتني
فوجدت ذاك لطول نايك
فرأيت أن أسعى إليك
وأن أبادر في لقائك
حتّى أجدّ بما تغيّر
لي وأخلق من إخائك
لم لا نبادر ما نراه يفوت
لم لا نبادر ما نراه يفوت
إذ نحن نعلم أنّنا سنموت
من لم يوال الله والرّسل التي نصحت
له فوليّه الطّاغوت
علماؤنا منّا يرون عجائباً
وهم على ما يبصرون سكوت
تفنيهم الدّنيا بوشك زوالها
فجميعهم بغرورها مبهوت
وبحسب من يسمو إلى الشّهوات
ما يكفيه من شهواته ويقوت
يا برزخ الموتى الذي نزلوا به
فهم رقود في ثراه، خفوت
كم فيك ممّن كان يوصل حبله
قد صار بعد وحبله مبتوت
أذل الحرص والطمع الرقابا
أذلّ الحرص والطّمع الرّقابا
وقد يعفو الكريم، إذا استرابا
إذا اتّضح الصّواب فلا تدعه
فإنّك قلّما ذقت الصّوابا
وجدت له على اللّهوات برداً
كبرد الماء حين صفا وطابا
وليس بحاكم من لا يبالي
أأخطأ في الحكومة أم أصابا
وإن لكل تلخيص لوجها
وإن لكل مسألة جوابا
وإنّ لكلّ حادثة لوقتاً
وإنّ لكلّ ذي عمل حسابا
وإنّ لكلّ مطّلع لحدّاً
وإنّ لكلّ ذي أجل كتابا
وكل سلامة تعد المنايا
وكلّ عمارة تعد الخرابا
وكلّ مملّك سيصير يوماً،
وما ملكت يداه معاً ترابا
أبت طرفات كلّ قرير عين
بها إلاّ اضطراباً وانقلابا
كأنّ محاسن الدّنيا سراب
وأيّ يد تناولت السّرابا
وإن يك منية عجلت بشيء
تسرّ به فإنّ لها ذهابا
فيا عجبا تموت، وأنت تبني
وتتّخذ المصانع والقبابا
أراك وكلّما فتّحت باباً
من الدّنيا فتّحت عليك نابا
ألم تر أنّ غدوة كلّ يوم
تزيدك من منيّتك اقترابا
وحقّ لموقن بالموت أن
لا يسوّغه الطّعام، ولا الشّرابا
يدبّر ما ترى ملك عزيز
به شهدت حوادثه رغابا
أليس اللّه في كلّ قريباً؟ بلى
من حيث ما نودي أجابا
ولم تر سائلاً لله أكدى
ولم تر راجياً لله خابا
رأيت الرّوح جدب العيش
لمّا عرفت العيش مخضاً، واحتلابا
ولست بغالب الشّهوات
حتّى تعدّ لهنّ صبراً واحتسابا
فكلّ مصيبة عظمت وجلّت
تخفّ إذا رجوت لها ثوابا
كبرنا أيّها الأتراب حتّى
كأنّا لم نكن حيناً شبابا
وكنّا كالغصون إذا تثنّت
من الرّيحان مونعة ً رطابا
إلى كم طول صبوتنا بدار
رأيت لها اغتصاباً واستلابا
ألا ما للكهول وللتّصابي
إذا ما اغترّ مكتهل تصابى
فزعت إلى خضاب الشّيب منّي
وإنّ نصوله فضح الخضابا
مضى عنّي الشّباب بغير
ردّ فعند الله احتسب الشّبابا
وما من غاية إلاّ المنايا
لمن خلقت شبيبته وشابا
بكيت على الشّباب بدمع عيني
بكيت على الشّباب بدمع عيني
فلم يغن البكاء ولا النّحيب
فيا أسفاً أسفت على شباب
نعاه الشّيب والرّأس الخضيب
عريت من الشّباب وكنت غضاً
كما يعرى من الورق القضيب
فيا ليت الشّباب يعود يوماً
فأخبره بما فعل المشيب