لولا اشتعال النار فيما جاورت
قد نشعر بالحزن عندما يضايقنا الحساد بكلامهم الحاقد، وقد يتملكنا اليأس عند سماعنا كلام مجحف في حقنا نعرف تماما مدى كذبه..
ولكن لنفكر قليلاً في حقيقة الحسد والعلاقة بين الحاسد والمحسود
من المتضرر حقاً من الذي حصل؟
لله در الحسد ما أعدله…. بدأ بصاحبـــــــه فقتله
ففي النهاية الإنسان الناجح والمميز لا بد وأن يتعرّض للكثير من النقد والأذى من الناس المحيطين به وذلك كلام مصدره الغيرة والحسد، فلا يجدر بالإنسان أن يحزن وقتها بل أن يشعر بالفرح لأنه وصل إلى مرحلة من التميز جعلت الناس يتطلعون إليه
اصبر على حسد الحسود … فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضــــــــها … إذ لم تجد ما تأكله
والطريقة الأمثل للتعامل مع هذه المواقف هي بالتجاهل، فعندما تتجاهل الأشخاص (الحسودين) تكسب عدد من الفوائد لنفسك منها:
- تغيض الحسود وترد كيده في نحره، فيزداد غيظه عندما يرى عدم اكتراثك به
- تضفي على قلبك برداً وسلاماً، فتشعر بالراحة ولا تتعب نفسك بما لا يُفيد
- ترفع من قدر نفسك في عينك وفي عيون من حولك.
وأنا هنا أود أن أذكر قصة تبين لك أهمية التجاهل والحلم في التعامل مع هذه المواقف وهؤلاء الأشخاص:
يحكى أن جماعة تحدثوا فيما بينهم عن كرم وحلم الأمير(معن بن زائدة)، فقام أعرابي من بينهم وقال لهم: ماذا تعطونني إذا أغضبت الأمير؟
فقالو له: لن تستطيع اغضابه وإن فعلت فلك 100 ناقة.
فدخل الأعرابي مجلس (معن بن زائدة) وكان محباً للشعر، فأنشده الأعرابي:
أتذكر إذ لحافك جلد شاه … وإذ نعلاك من جلد البعير
وهو شعر غير لائق يذّكره فيه بفقره، وما كان من الأمير إلا أن ردّ عليه بكل هدوء وثقة:
أذكر ذلك ولا أنساه
فتابع الأعرابي:
فسبحان الذي سوالك ملكا… وعلمك الجلوس على السرير
فأجاب معن:
سبحان الله
فقال الأعرابي في محاولة لاستفزاز الأمير:
فلست مسلما ما عشت أبداً … على معن بتسليم الأمير
فهو يدعو الأمير باسمه منفرداً دون أية ألقاب، ويضيف إلى ذلك قوله وبجرأة أنه لن يسلم أبدا على الأمير معن ولن يلقبه بالأمير أو أي لقب يدل على مركزه!
ما الذي فعله معن عندما سمع هذه الكلمات؟
لم يزد على أن قال:
يأخي إن سلمت علينا رددنا لك السلام وإن تركت فلا ضير عليك
وهنا زاد الأعرابي في استفزاه، فهو يريد أن يكسب الرهان..
سأرحل عن بلاد أنت فيها … وإن جار الزمان على الفقير
سأسافر عن هذا البلد كي لا أراك أبدا.
ولكن هذه المحاولة أيضا لم تفلح، فأنا أكاد أرى الأمير جالساً بهيبته يبتسم ويرد على الأعرابي بكل ثقة:
إن أقمت فينا فعلى الرحب والسعة، وإن رحلت صحبتك السلامة!
وهنا سقط في يد الأعرابي وقرر أن يرفع سقف التحدي فقال:
فجد لي يا ابن ناقصة بمال … فإني قد عزمت على المسير
يا للوقاحة!
أعطني مال كي أرحل عنك
ويدعوه بـ (ابن ناقصة) مشاكلة لاسمه (ابن زائدة)
وهكذا تجاوز كل حدود الأدب ويطلب فوقها مالاً من الأمير
لكن الأمير أرفع منزلة من أن تهزه هذه المحاولة، وأن تؤثر فيه كلمات سمعها من حاسد أو مستفز له..
كانت المفاجأة أن قال لغلمانه:
يا غلام أعطه ألف دينار
ولكن الأعرابي لم ييأس بعد:
قليل ما أتيت به وإني … لأطمع منك بالمال الكثير
قليل!
ألف دينار وقليل على هذا الهجاء!
لربما لو كنا مكان الملك لأجبناه:
قليل عليك ألف سنة في السجن.
لكنه معن بن زائدة الذي جابت شهرته الآفاق وما أوصله إلا حلمه وكرمه وخلقه النبيل الذي قد نستطيع تعلم شيء منه، بكل بساطة أعطاه ألفا ثانية
وإذا بالأعرابي يصل أقصى حدود الاستفزاز عندما يقول:
فثن فقد أعطاك الله ملكاً… بلا عقل ولا رأي منير
أعطني المزيد، فالله أعطاك هذا الملك وأنت لا تستحقه، لأن لا عقل لك ولا تملك الرأي السديد.
وها هو معن بن زائدة يعطيه ألفين آخرين.
وهنا سقط بناء الأعرابي ولم يملك أن يكمل ما بدأه بعد أن رأى هذا الحلم وهذا التعامل الراقي، وإذا به يعود إلى رشده ويترك أمر الرهان ليمدح الأمير بما يستحق ويقول له نادماً:
سألت الله أن يبقيك دهرا… فما لك في البرية من نظير
فأنت الجود والإفضال حقاً… وفيض يديك كالبحر الغزير
فابتسم معن بن زائدة وقال:
أعطيناك أربع آلاف على هجوك، وسنعطيك أربعة على مدحك.
فقال الأعرابي خجلاً:
حفظك الله يا أمير فوالله ما هجوتك إلا من أجل رهان على مئة ناقة خسرته.
فإذا بالأمير يعطيه مئتي ناقة مئة لأصحاب الرهان ومئة له.
وإني لأفكر بعد أن أقرأ هذه القصة العظية، أيعقل أن نعرف فضل معن بن زائدة لو تصرف بطريقة مختلفة وأنب الأعرابي مثلاً؟
إنّ حلم معن وهدوءه في التعامل مع الموقف قد رفع من شأنه وما ضره في شيء، وهو بذلك يصدق الشعر القائل:
وإذا أراد الله نشر فضيلة………… طويت أتاح لها لسان حـــــسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت….. ماكان يعرف طيب عرف العود