نبذة عن الشعر اليوناني و الروماني
عشرون قصيدة | يانيس ريتسوس
(شعر يونانى )
1- تجارب
تهجرني الألوان، مع مرور السنين، وأهجرها
ويبدو لي الحجر الأبيض أكثر ملاءمة
أنحت بطرف أصابعي، بملء راحتي، بشفتي
جسماً أبيض، نقيضاً لليل، مجانساً لليل –
يبرز جلياً في العتمة، يشع، أترك
بشهوة لساني في فم الرخام. من الآن فصاعداً
يحق لي أن أصمت، وأن أطبق أهدابي.
- * *
2- في الفراغ
سقوط الماء فوق الحجر.
صوت الماء في شمس الشتاء-
صوت
عصفور منفرد.
في السماء الفارغة
يبحث من جديد عنا
من جديد يضمر
( يضمر أي “نعم”؟)
يسقط من الأعلى
وفق الحافلات الواقفة
المليئة بالسائحين الموتى منذ عصور.
- * *
3- الجوهري
بلا مهارة، يخيط أزرار سترته
بإبرة كبيرة، وخيط ضخم.
هل أكلت خبزك؟ هل نمت بهدوء؟
أقدرت أن تتكلم؟ أن تمد يدك؟
هل تذكرت أن تنظر من النافذة؟
هل ابتسمت حين قرع بابك؟
إن كان الموت هنا فهو دائماً يجيء ثانياً
الحرية هي الأولى دائماً
- * *
4- مشهد
أنظر، الآن. هنا ستعيش، قال، هنا.
ما يهم: هنا أو هناك؟
بعضهم يهبطون، يصعد آخرون السلم ذاته
ولا يتبادلون التحية. نافذة مغلقة. نافذة
أخرى تنفتح. المنظر هو نفسه: واد، رابية،
شيخ يتقدم في الغسق وحيداً مع عكازه،
زيتون، دوال، المشنوق، أشجار السرو
والحور، جرس، النهر، الكلب، الباص،
جرة، تماثيل، أجنحة كبيرة من الرخام –
أتظن، حتماً لو أنها على كتفيك، انك قادر
على الطيران؟
- * *
5- بياض
وضع يده على الصفحة، لكي لا يرى الورقة
البيضاء، وعاش تحت يده العارية. حينذاك
أطبق أيضاً عينيه، وأصغى إلى بياض مكفن،
معتم، لا يوصف، يتصاعد في نفسه.
- * *
6- دقة
لم نكن نطيق الفراغ غير المسكون. كنا غالباً
نصطحب المرأة الكبيرة إلى الضفة النهر، أو
نضع كرسياً فوق شجرة. أحياناً، كنا على
العكس، ندخل شجرة كبيرة إلى غرفة الطعام
حينذاك نسمع الرصاص، وراء السياج،
متأخراً، مع هبوط المساء. ومع أننا كنا
نعرفه وننتظره، فقد كنا دائماً نفاجأ – كان
ذلك يؤكد لنا المكان الصحيح للكلمات.
- * *
7- امتياز
قال- لا أفهم هذه الهزات المفاجئة.
لكي أنسى نفسي، أنظر في المرآة الصغيرة،
ألمح النافذة الثابتة، أرى الجدار- لا شيء
يتغير، سواء داخل المرآة أو خارجها.
أضع زهرة على الكرسي (فترة تذبل في أثنائها)
هنا أسكن، في هذا الرقم، في هذه الشارع
فجأة يرفعونني (الكرسي والزهرة).
وهذا يتجدد بصدمات، نحو الأسفل، نحو
الأعلى، لا أعرف.
لدي، لحسن الحظ، وقت لأضع المرآة
الصغيرة في جيبي.
- * *
8- مكان مجهول
مضى بيتروس إلى الشرق، مضى الكسيس إلى
الغرب، –
لم نعد نعرف شيئاً من أخبارهما، ولا نعرف
ماذا حدث لهما.
نجلس على هذا المفترق، نظمنا هذا المكان
وضعنا لافتات، كتبنا عليها أسماء.
يمر أصحاب العجلات، معهم أحيانا عنب،
أو برتقال، وأحياناً تفاح، يسألون:
” هل هذه طريق إسبارطة؟ ارغوس ؟ ” نحرك
رؤوسنا أن ” نعم ” – لكي لا نخيل لهم أننا
نسينا منذ سنين–
نصعّد الدخان من أنوفنا، كما لو أن نار
تشتعل فينا – ( أية نار وأية معرفة ؟) مع
ذلك، نعيش، ونتخلص منه،
أحياناً نبتسم، – حينذاك ننظف أسناننا الأمامية
بأظافرنا، لكي لا يبدو أننا لا نعرف أننا لم
نعرف أبداً. أم لعل ما لم نعترف به. ما يزال
يستبقينا في انتظار ساعة الاعتراف؟
- * *
9- تلفيق
قال: كيف يستمر الناس في سيرهم؟ كيف
يتكلمون؟
الأسنان تسقط، والشعر يسقط، الأظافر
تعود إلى داخل اللحم.
الجيوب
مثقوبة بعملة زائفة.
أية أدلة يمكن أن تتخيلها القصيدة؟ أحجار
وأحجار، عشب القبور، المدخنة، أوراق،
كلمات. يدق أحدهم بظفره على زجاج النافذة،
الصوت مسموع، – الآخر، خارجاً ، لا يسمع
شيئاً. جرائد، قتلى.
عند الخياط ، دمية بلا رأس ، تلبس سترة
سوداء جديدة.
سأل الخياط : ” إلى اليسار أو إلى اليمين ؟ “
ألح ، قال:
” نفصل بنطالاً مضبوطاً ، أنيقاً ، بحسب
موضوع العضو الجنسي ” . هوت دمية القش
البشوشة دون أن تدري ، رأسها الغائب،
موافقة.
- * *
10- بعد المطر
كان ثمة، بعد المطر، عصافير وغيوم صغيرة.
وجاء الغسق هادئاً ، بألوان كثيرة . الوردي
يرتعش في الماء إلى جوار البرتقالي . قال
غريب أن تكون ألوان، وأن نكون رأيناها.
تباع في مطعم الجند لفافات التبغ، وبطاقات
لعيد الميلاد، وقطع صغيرة من الشوكولاته.
المهم أن تنسى. الأضواء تتوقد. والمرضى
أصدقاء الغسق. تحت الأشجار مقعدان
وطاولة كبيرة للحراس. وقال: هناك جنس
غريب من السمك لا يتكلم.
- * *
11- الحاجة إلى التعبير
قال: الكلمات هي أيضاً تموت مع الزمن
والتعب. لم يبق شيء ليعبر عن أي شيء.
نحلت أصابعه. سقط خاتمه. يربطه بطرف
خيط ، يدليه في البئر، يسحبه، لا شيء.
لم يعد للخيط أي معنى. لكن ارتطام الخاتم
بالحجر بدا كأنه يقيس شيئاً ما، شيئاً كان لا
بد من قياسه لكي يصل مساء إلى الرقم المفرد
المنقوش وراء الباب.
- * *
12 – استغراب
كانت قطعة خبز متروكة على الحجر. حط
العصفور، نقرها.
عادت العجوز وقالت : “لم أتركها لك”.
تناولت قطعة الخبز وأخذت تفتتها وتنثرها
أمامه. كان العصفور يحدق في عينيها. ولم
يأكل.
- * *
13 – استقلال خفي
هذه الغيوم الخمس، المتشابهة تقريباً، كم
كانت مقربة إلينا، أو مستحبة بغموض –
لعددها، دون شك، أو لأننا أدركنا أننا ما
نزال قادرين أن نعد أو على الأقل أن نلاحظ.
بعد ذلك انتبهنا إلى الفروقات – ورود تميل
إلى البنفسجي. حينذاك سمعنا صوت
الصافرة. نهضنا. أمرونا أن نمر واحداً
واحداً أمام الباب وأحصوا عددنا. ابتسمنا.
كنا نعرف أننا باقون خارج إحصائهم، مع
الهلال. ومع هذه الغيوم الخمس.
- * *
14 – فطنة
الكلمات ورق والقصائد ورق. المدينة كلها
ورق. يكفي عود ثقاب لإشعالها.
– “عود ثقاب . عود ثقاب”
عيدان الثقاب رطبة. لا تشتعل، إنه المطر،
دون شك.
أم لعلك تركتها أمس، مساء في الحمام؟
- * *
15 – اجتياح
هنا كذلك مروا. مضوا. صمت. حجارة
سوداء، أشجار مكسورة. مصابيح محطمة.
على الطريق ألواح مهشمة، علب، خيوط،
مسامير. الغرفة فارغة، وهناك على الطاولة
الكبيرة المحدودة، رأس مقطوع في كل صحن.
وعند الباب، ضرب عنق الراقصة. قالت:
” سيدي ، يجب علي أن أسرع وألحق بهم.
أن أسرع، سيدي.”
وهناك، على النهر، كانوا يغسلون سلال
العنب. وكانت زيزان الحصاد تغني.
- * *
16 – النساء
النساء بعيدات جداً. لأغطية أسرتهن رائحة
“الليلة الطيبة”
يضعن الخبز على المائدة، لكي لا نشعر أنهن
غائبات.
حينذاك نحس أننا مذنبون. ننهض عن مقاعدنا
ونقول:
“لقد تعبت اليوم كثيراً” ، أو أيضاً ” دعيني ،
أنا من سيشعل المصباح ” .
حين نشعل عود الثقاب ، تقوم ببطء
متجهة نحو المطبخ باهتمام لا يفسر.
ظهرها
تلة صغيرة من المرارة مثقلة بموتى لا حصر لهم،
موتى العائلة، موتاها هي وموتانا.
لخطواتها صوت يصر فوق الألواح الخشبية
العتيقة،
والصحون تبكي في الخزانة، ثم يعلو صوت
القطار الذي يحمل الجنود إلى الجبهة.
- * *
17 – حفل
الريح تثرثر أمام النوافذ
كهؤلاء الذين يتأهبون للافتراق.
المفروشات أصبحت كفتيات فقيرات
يلتقطن الزيتون الساقط. المساء يسير تحت
أشجار الزيتون،
وحيداً، والسهل بسنابله المحصودة رفض.
جلد الزيز، الهرم
يشبه جرساً صغيراً متكسراً بين الأعشاب
اليابسة.
بعد وقت متأخر جاء مطر ناعم، طرد عصافير
الدوري،
ببطء ينام العمر تحت أشجار السرو،
كالمحراث المهجور. الفلاح ينام تحت الأرض-
زوجته وحيدة مع الكلب، والثور الهزيل.
يدا السكون باردتان كالثلج
وهو يلف غطاء كتفيه الأسود تحت ذقنه.
مع ذلك، ترك الفلاح على يد المحراث علامة
أقوى من يده
ويحافظ مسند الكرسي على عرض كتفيه،
بدفئه كله.
من أجل جميع هذه الأشياء التي لا معنى لها –
لا أعرف
أريد أن أكتب أغنية قصيرة جداً تبرهن على
أنني لا أعرف شيئاً
عن هذه الأشياء كلها، إلا أنها هي كما هي،
وحيدة ، وحيدة جداً ، وأنها لا تطلب أي توسط
بينها وبين أي شيء آخر.
- * *
18 – تأخر
ذهب الصيف سريعاً: لم نلحق به .
غيوم كبيرة معلقة فوق الجبال
كأقنعة المأساة القديمة. ما العمل؟
أحذيتنا، الأكثر من مهترئة، تضايقنا دائماً قليلاً
الضوء يضايقنا، الغيوم تضايقنا.
ها نحن نصل أمام شجرة مزهرة
أمام الخبز، أمام الماء،
أمام النافذة الأكثر استقبالاً
حائرين قليلاً ، لاهثين ،
نشعر أننا تأخرنا قروناً .
أيكون الأمر أننا تقدمنا بعيداً جداً ؟
- * *
19 – وسيلة التعبير
لم يعد يحب الأشياء والكلمات والعصافير
التي تحولت إلى شعارات أو رموز (ولا شيء
تقريباً أفلت من هذا المصير). هكذا ، فضل
بعد ذلك ألا يفتح فمه، وأن يقوم كالأبكم بأنواع
من الحركات الغريبة، الهادئة، الغامضة،
المحزنة، أو بالأحرى المضحكة.
لكنهم ، هم أيضاً ، بعد بضع سنوات ،
تحولوا إلى شعارات .
- * *
20 – صورة مكبرة
لم يكن لنا سند آخر.
هو، الجميل غير المهموم ، كان يتوسد حجراً
ويرقد على الأرض.
كنا نعرف: سكينه في جيبه، مطبقة،
تدفئها حرارة جسده، وبين أسنانه قشور
العنب.
الباقي، في الليل، كان أحمر اللون.
(مختار من مجموعتي الشاعر: الجدار في المرآة، وقبل الإنسان .)