كيف تحقق التقوى

التقوى وقود الروح

إنّ المُتأمّل والمُلاحِظ لطبيعة الإنسان يُدرك على نحو لا يترُك مجالاً للرّيب وجود الحاجات الروحية باعتبارها ضرورات لا يُمكن الاستغناء عنها، وتتمثّل هذه الضرورات على شكل أعمال تعبُديّة وشعائر طُقوسيّة هدفها النّهائي شُعور الإنسان المُمارس لها بالرّاحة والسّكينة والاسترخاء. وكلمّا كانت هذه الأعمال تُنمّي باطن الإنسان فتُخلصُه من الأحقاد والحسد والضّغائن على الناس وأنْ يكون مُحاسِبًا لنفسه ويُقوّم أخطاءها، وذلك يرجع إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وما يُرشد إليه العقل السليم من اجتناب كل قبيح ومُحاولة فعل كل ما هو حسن وجميل.

المعنى المذكُور هنا بخلاف الفِكرة الرّاسخة في أذهان الناس عن السعادة وأنّها تكون فقط خارج حُدود النّفس والعقل من خلال جمع الأموال والبيوت والعقارات والذّهاب إلى المطاعم والتنّزُه والسّفر والزّواج وإنجاب الأبناء واكتساب المناصِب، والحُصول على الترّقيات التي ترفع من صِيت الفرد في المُجتمع وتجعل الناس ينظرون إليه باحترام وتوقِير، هذا لا شكّ أنّه مطلوب ومُهم في حياة الناس؛ لأنّ الإنسان يُحب أنْ ينتزِع اعتراف النّاس به وبكينونتِه، لكن الخلل كلّ الخلل في هذه الطريقة يكمُن في أنّ يتّخذها الناس وحدها كسبيل مُحفّز وقوة دافِعة للحياة.

التقوى الصحيحة

إنّ الغُلو في الشيء يصحبُه دائمًا حصول الشيء على العكس مما يتوقّعه الفرد، لذلك ليس معنى التقوى الصحيح أنْ يتمسّك بادّعاء التقوى، أي التمسُك بالعبادات وحدها والتشدّد فيها فقط واعتزال الناس وعدم مُخالطتِهم ومُمازحتهم، فإنّ من حاجات الروح التمتّع بالجمال سواء الطبيعة بسحرها وبداعة تصميمها ومناظِرها الفاتنة، أو الفُنون الأدبية مثل: الرّسم والنّحت والموسيقى ونظم الشّعر، فهذه كافّةً تعمل على تنمية وزيادة الذّائقة الجمالية في الإنسان وتجعلُه ينفتِح على الوجود بتفاؤل وحب.

وكما أنّ الإنسان يتألّف من روح، فهو كذلك له جسد ولهذا الجسد ضرورات لا بد من تلبيتها مثل: مُمارسة التمارين الرياضية والرياضات المُختلِفة التي تزيد من قُوة البدن، وتعمل على حِمايته من الأمراض المادية، أو المعنوية مثل: الخُمول والكسل؛ لأنّ حركة الأعضاء والجوارح سبب في دوام حياتها، وكذلك مُمارسة العلاقة الزّوجية الحميمة على نحو مُنتظَم يزيد من الصّحة النفسيّة والجسدية والسعادة العاطفية للشريكين ويرفع من مستوى نشاطهما وإنجازاتهما في الحياة.

وهكذا وبالجمع بين مُتطلّبَات الروح ومُتطلبَات الجسد تحصُل المُوازنة والوسَطيّة وهما علامة التقوى الصحيحة.

إنّ التقوى تُعتبر تجربة، والتجرُبة لا بدّ لها من وقت طويل نسبياً، فهو ليس بالشيء الهيّن ولا بالسّهل -وهو مع ذلك ليس بالمُستحيل-، فإنّ الظفر به والتّعرُف على معالِمه، يُكلّف صاحبه خوض تجارب كثيرة، فكما أنّ البناء المُتقّن المُعقّد الأنحاء والتفاصيل يتطلّب وقتًا طويلاً ليُصبح في صورته النّهائية فكذلك التقوى تحتاج إلى عُمر طويل من العمل والسعي والتعب في سبيل تهذيب النفس وتعليمها، والصبر على الأذى إنْ كان المرء مُضطرًا أحيانًا لخوض تجارب في العمل تجلب له نقد الناس وسُخريتِهم والتقليل من الشأن.

إضافةً إلى ما جرى ذكرُه، فإنّ جزءاً من الصُعوبة يكمُن ويحصل إذا أنجب المرء أطفالاً فيحتاج حينها إلى أن يكون قُدوة صالحة لهم وذلك ليتشرّب هؤلاء الأطفال الأخلاق الحسنة والتنشِئة الصالحة ويجب عليه أنْ يكون لديه علم ومعرفة جيدة بقصص الأنبياء والرسل وأخبار الصالحين ومقولات الحكمة التي تنمّي عُقولهم وتوسّع من إدراكهم.

التقوى سبب للسّعادة

تعمل التقوى الصحيحة المبنية على المُوازنة بين الروح والجسد على زيادة أسباب سعادة الإنسان إنْ كانت النفسية والمُتمثّلة في السّلام الداخلي والسكينة وعدم وجود القلق والوساوس وما شابه ذلك، أو الاجتماعية؛ حيث إنّ مُعاملة الناس بالخُلق الحسن ومحادثتهم بخطاب يُناسب خبراتهم وتجاربهم وعُقولهم وأعمارهم، يعمل على زيادة قبول المرء بين النّاس وهذا من الذكاء الاجتماعي.

وهو عامل مُساعد في النجاح في المعاملات الحياتية ليس مع المسلمين وحدهم فقط، بل ومع غير المسلمين؛ حيث إنّ القرآن مليء بالآيات التي تُشجّع على التعارف بين الناس وإنّ أفضل الناس عند الله تعالى هم من يُحققّون أكبر رصيد من التقوى، وهذا الرصيد لا يحصل إلا بمراعاة العدل والأمانة والصّدق والمُروءة ومد يد العون للآخرين والإحسان إليهم.

أمثلة التقوى من الحياة اليومية

إذا كنتَ في منصِب رئيس شركة

عوّد نفسك على احترام العاملين لديك والتواضع معهم، وأنّك تُقدّر مجهوداتهم في العمل، ولا تكن دائم التسلّط بالأوامر والتعليمات في مُعاملتهم، بل اجعلهم يشعرون أنّ الشركة مُلك لهم وأنّ العلاقة التي تربطك بهم ليست المصلّحة والمال وفقط. اسأل عنهم وقم بزيارتهم في الإجازات والأعياد، فإنْ كسبت احترامهم لذاتِك لا لمنصبك وثروتك كانت العلاقة بينك وبينهم سويّة وناضجة.

إذا كنت عاملاً في شركة

احرص على أنْ تعتبر عملك أمانة وأنّه من الصدق والمروءة والشرف إنجازه على أحسن وجه، وحِفظ أسرار الشركة وعدم إفشائها إلى الغُرباء، وإيّاك وأن تُسوّل لك نفسك سرقة مال الشركة فإنه من الغش والخيانة ودناءة النفس، واعمل قدر وسعك على عدم التقاعُس والتكاسُل وحافظ على مواعيد العمل، وستشعُر بعدها بالرّضى الداخلي والرّاحة النفسية والتي ستنعكس حتمًا على إنجازك في العمل وعلى علاقاتك بزمُائك ورئيسك على نحو إيجابي.

إذا ولدت ولك امتياز ما أو صرت مشهورًا فتعلّم كيف تستخدمه لا أن تتركه يستخدمُك

إذا كان والداك أغنياء فلا يجعلُك ذلك تستعمل الرُتبة الاجتماعية للتكبُر على الناس وأن تنظر إليهم باحتقار بسبب أشياء لم تتعبْ فيها بل وجدتها جاهزةً أمامك، لأنك رُبما تخسر هذا الامتياز أو تفقدُه لسببٍ من الأسباب، فتكون الخسارة مُضاعفة فالناس لن تقيم لك وزنًا لأخلاقك السيئة. كذلك إذا كنت مشهورًا فلا تجعل الشُهرة تستعملك فتكون عبدًا لها، فعليك أنْ تتعلّم التواضع مع جُمهورك، فإذا كانت أخلاقك حسنة ربّما اتخذوك قدوةً لأبنائهم وصرت مثالاً يُحتذى سواءً في الأخلاق أو ميدان من الميادين بلغت فيه مراتِب المجد والنجاح.

إذا كنت شيخًا ولك منصب ديني

اعمل على استخدامه من أجل نشر التقوى والحب بين الناس، وحثّ أبناء دينك على احترام وتوقير أبناء الأديان الأخرى، والتعاون معهم من أجل العمل لخدمة المجتمع ونبذ روح الكراهية والفُرقة بين الناس.

واجعل اهتمامك في نصائحك ودُروسك ومواعظك حول أن يكون عملهم أكثر من كلامهم، وكذلك أنْ يملكُوا خلق العفو؛ لأنه يعمل على تقبُل الإنسان المُخطِئ، وأنّ ما وقع منه ليس نهاية العالم ويُمكنُه بكل سهولة أن يصير شخصًا آخر فعّالاً في المجتمع.

بهذا كلّه تصير الأفكار الدينية وقودًا حقيقيًا في تشييد مُجتمعات ذات نسيج شديد الترابُط والاستقرار، واحذر أن تُعلّم طلابك أنّ مذهبك هو الصحيح وغيره على ضلال، فإنّ هذه الفكرة هي منشأ الغُرور وقاتلة التواضُع في الشخصية، وتؤدّي إلى التفريق بين الناس في المُجتمع فتنتشر الضغينة وربّما العداوة والقتال بينهم.

إذا كنت تاجرًا أو طبيبًا فلا تتهاون في صحة الناس

أصحاب هاتين المهنتين لهما دور في حفظ صِحة الناس؛ فالتاجر هو من يأتي بالبضاعة الضرورية للناس فعليه أنْ يكون أمينًا ويأتي بالأصناف ذات الجودة المُمتازة، لا أنْ تدفعه دناءة نفسِه إلى جلب بضاعة ذات مُدّة صلاحية قصيرة لغرض الربح وفقط. وكذلك الطبيب عليه أن يكون تقيًا أمينًا في رعاية المرضى والسّهر على عافيتهم، ففي الطّب لعلّ الخطأ يكون غير مُمكِن التّصحيح.

إذا كنت صاحب تقوى، فإيّاك أنْ تعتقِد أنّ التقوى معناه أنْ تكون مُغفّلاَ أبلهًا

إنّ الغرض من التقوى هو أنْ تكون على خُلق حسن وسجايا جميلة، تستعملُها في تقليل آلام الناس وتخفيف مُعاناتهم، مع ذلك فإنّك سترى من يحاول أنْ يُقلّل من شأنك باسم أنّك عفوي وعلى سجيّتك وتحت عنوان أنّك طيب القلب، فإيّاك أن يستغفلُك مثل هؤلاء وتعلّم أنْ تكون يقظاً وذا حسٍ مُرهَف ونقديّ لكل ما يمر عليك من كلام ومواقف فالقُوة والذّكاء والحصّافة هي من سِمات المُؤمن بجانب التقوى.