نشأة علم الصرف
تعريف عِلم الصّرف
تعود كلمة الصّرف إلى المادّة الّلغويّة صَرَف، ويُقال صَرَف الشّيء أيّ حوّله وغيّره، وبدّله عن الوجه الذي كان عليه، أمّا في اصطلاح الّلغة فالصّرف كما ورد في كتاب المُفتاح في الصّرف هو العِلم الخاصّ بإعادة صياغة الكلمة المُفردة وشكلها على ضُروب مُختلفة لإنشاء ألفاظ ومعانٍ مُختلفة، وهو تعريف مُشابه لتعريف الشّيخ محمّد محيي الدّين عبد الحميد حين عرّفه بأنّه العِلم الذي يبحث في طُرق صياغة الأبنيّة العربيّة، على نحو مُختلف عن الإعراب والبناء، وهذا هو التّعريف الخاصّ بالمُتأخّرين من علماء الّلغة العربيّة.[١]
نشأة عِلم الصّرف
نشأ عِلم الصّرف بالتّزامُن مع عِلم النّحو على نحوٍ جعلهما على اتّصال واتّساق، فلم يُنظر لعِلم الصّرف على أنّه علم مُستقلّ عن النّحو، بل كانت النّظرة العامّة الأولى أنّه جزء منه، وهو ما كان يضطر مَن أراد البحث في قضية تخص عِلم الصّرف لبحث عنها تحت عنوان “النّحو”، نظراً لتداخل العلمين دون وجود حدود تميّز أحدهما عن الآخر، وهو ما سبب الخلاف في زمن نّشأة عِلم الصّرف، فبعض الأقوال تشير إلى أنّه بدأ في زمن معاذ بن مسلم الهرّاء عام 803م، وكان السّيوطي من أصحاب هذا القول، أمّا القول الآخر فيشير إلى أنّه كان في زمان مُتأخّر أي في عام 1474م، والأرجح أنّ بدايات هذا العلم كانت مع النّحو في مُنتصف القرن الأول الهجريّ، إذ إنّ هذا ما ذكره أحمد الحملاويّ في كتابه (شذ العرف في عِلم الصّرف)، ويجب الإشارة إلى أنّ العديد من الباحثين أشاروا إلى هذا القول وأقرّوا بأنّ عِلم الصّرف -كما عِلم النّحو- عُرِف عن عُلماء الّلغة في عهدهم الأولّ، فقد كان العالِم بالّلغة لا بدَّ مُلمّاً بالعلمين معاً بالإضافة إلى غيرهما من عُلوم الّلغة الأخرى.[٢]
أسباب نشأة عِلم الصّرف
تعود نشأة عِلم الصّرف إلى أسباب مُختلفة، إلّا أنّها لم تظهر جلياً خلال الفترة الزّمنيّة الممتدة بين العصر الجاهليّ وأوائل عصر الصّحابة؛ إثر اعتنائهم بالكلام الفصيح خير اعتناء، إلّا أنّ الفتوحات الإسلاميّة التي عقبت هذه المراحل، والتي دخل خلالها العديد من الأعاجم إلى بلاد العرب، وهو ما أدّى إلى اختلاط الّلغات بعضها ببعض دعت إلى إيجاد عِلم الصّرف والنّحو لحفظ اللغة العربية وعلومها، ويُمكن حصر الحاجات التي أفضت إلى وضع هذا العلم فيما يأتي:[٣]
- الحاجة الدّينيّة: تتمثّل هذه الحاجة في إيجاد قواعد للغة العربيّة يُمكن للمسلمين الفاتحين الاعتماد عليها والرّجوع إليها عند تعليم الأعاجم أمور الدّين، وظهر ذلك جليّاً في فترة الفتوحات الإسلاميّة لبلاد فارس، والرّوم، فما كانت العُلوم الدّينيّة لتصل لغير العرب على الوجه الصّحيح إلّا بإيجاد أساس واضح تُنقل تبعاً له، وهي قواعد الّلغة العربيّة المُتمثّلة بعِلميّ الصّرف والنّحو.
- الحاجة الاجتماعيّة: تكمُن هذه الحاجة من كون الإنسان اجتماعياً منذ خَلَقه الله، وهو ما يجعله بحاجة دوماً للتّواصل مع غيره من النّاس، وكان لاختلاط العرب بغيرهم بسبب الفتوحات الإسلاميّة أثر بالغ في ضرورة إيجاد حلقة وصل بينهم؛ لتسهيل تواصل النّاس مع بعضهم، وقضاء الحاجات بينهم، كما كان لظهور عدد كبير من الموالي -غير العرب- البارعين في أمور الّلغة العربيّة، والمُتفوّقين فيها دليل على ما أوجدته هذه الرّابطة الّلغويّة.
يعتبر اللاحن أثناء قراءة القرآن الكريم، أو الأحاديث النّبويّة داخلاً في دائرة الحاجة الدينية، أمّا اللاحن في غير ذلك فيُدرج تحت الحاجة الاجتماعيّة الدّاعية إلى تصحيح كلامه، وكان مَسلمة بن عبد الملك بن مروان ممّن نبّهوا إلى أهميّة الابتعاد عن الّلحن، إذا قال: “الّلحن في الكلام أقبحُ من الجَدريّ في الوجه”، وممّا نُقِل عن الحجّاج كذلك أنّه كان ممّن يكره أن يقع في كلامه أو كلام غيره لحن، بل وكان حريصاً أن يسأل عمّا يُمكن تجنّبه في قضايا اللغة للابتعاد عنه.[٣]
واضع ومؤسس عِلم الصّرف
أشارت العديد من الكُتب العربيّة المُتعلِّقة بقواعد النّحو والصّرف مِثل كتاب (أخبار النّحويّين البصريّين)، وكتاب (التّفكير النّحويّ)، وكتاب (طبقات فحول الشّعراء)، وغيرها إلى أنّ واضع المبادئ الأولى الخاصّة بعِلميّ النّحو والصّرف هو أبو الأسود الدُّؤليّ، إذ جاء ذلك إثر مُلاحظته العديد من الظّواهر النّحويّة والصّرفيّة أثناء ضبطه للنّص القرآنيّ، وهو الأمر الذي دعاه للتّفكير في تفسيرها، كما ذُكر أنّ مدينة البصرة في العِراق كانت موطن النّشأة الأولى لعِلميّ الصّرف والنّحو؛ كونها ملتقى الأعاجم مع العرب في ذلك الوقت،[٣] إلّا أنّ هُناك رأي آخر قِيل فيه أنّ المُورِد الأول لمسائل الصّرف مع إفراده له كعِلم مُستقلّ عن عُلوم الّلغة العربيّة الأخرى هو مُعاذ بن مُسلم الهرَّاء، وهُناك رأي ثالث قِيل فيه أنّ واضعه هو (عليّ بن أبي طالب) -رضي الله عنه- لا غيره.[٤]
مراحل تطوّر عِلم الصّرف
كان لِعلم الصّرف -بالتّزامن مع عِلم النّحو- أربعة مراحل تطوّر خلالها حتى صار إلى ماهو عليه الآن، وفيما يلي بيان لها:[٥]
مرحلة النّشأة
هي المرحلة التي بدأ فيها ظهور عِلم “الصّرف والنّحو”، وكان ذلك في الفترة الممتدة بين (40هـ – 154هـ)، وكانت البدايات في مدينة البصرة، وتمتاز هذه المرحلة بوجود طورين لها هُما:
- الطّور الأولّ: هو الطّور الذي كانت فيه العلوم مُختلطة، فقد كانت علوم الصّرف والنّحو، وعِلم القراءات في حالة اختلاط دون وجود أيّة حركة تُعنى بتصنيفها وتمييزها، إنّما كان الاعتماد في هذه المرحلة على ما يحفظه النّاس في صدورهم، وممّن برزوا خلال هذه الطّور من العُلماء أبو الأسود الدُّؤليّ والعديد من تلاميذه مِثل: نصر بن عاصم الّليثيّ، وعنبسة الفيل، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعبد الرّحمن بن هرمز.
- الطّور الثّاني: هو الطّور الذي انفصل فيه عِلم القراءات عن عِلم الصّرف والنّحو، مع ظهور حركة جديدة تُعنى بتصنيف عِلم الصّرف والنّحو، بالإضافة إلى الاتّساع الذي شهده هذا العِلم في هذه المرحلة، ومّمن ذاع صيتهم في هذا الطّور عيسى بن عمر الثّقفيّ، وأبو عمرو بن العلاء اللذان كان لهما العديد من التّصانيف.
مرحلة النّموّ
اتّسعتْ مواطن عِلم الصّرف والنّحو في هذه المرحلة، مع ظهور العديد من العُلماء فيها، وهو ما عمل على ازدهار هذا العِلم، ويجب الإشارة إلى أنّ هذه المرحلة قامتْ في مدينتيّ البصرة والكوفة، وكان ذلك خلال الفترة الممتدة بين عامي 155هـ – 220هـ، والجدير بالذِّكر أنّ الازدهار الذي شهدته هذه المرحلة أوجد العديد من المسائل الخلافيّة بين العُلماء في هذا العِلم، والتي نجم عنها الكثير من المُناظرات، بالإضافة إلى كثرة وُجود المُصنّفات، وممّن اشتُهر من العُلماء في هذه المرحلة من مدينة البصرة الخليل بن أحمد الفراهيديّ، ويُونس بن حبيب، وسيبويه صاحب كِتاب (الكِتاب)، والذي يُعدّ أقدم كِتاب وصل إلى النّاس وضع ليعتني في عِلميّ الصّرف والنّحو، ومنهم الأخفش الأوسط أيضاً، أمّا من مدينة الكوفة فعُرف مُعاذ بن مسلم بن الهرَّاء، والكسائيّ، والفرّاء.
مرحلة النّضوج
تتميّز هذه المرحلة بانفصال عِلم الصّرف عن عِلم النّحو، كما اعتُبرت الفترة الممتدة بين عامي 221هـ – 292هـ هي المرحلة التي بدأ فيها عِلما الصّرف والنّحو بالنّضوج والاكتمال ليبدأ انفصالهما كل كعلم مستقل، ويجب الإشارة أنّ هذه المرحلة قامت في مدينتيّ البصرة والكوفة، ومن أبرز عُلماء البصرة في هذه المرحلة أبو عمر الجرمي، وأبو عثمان المازني صاحب كِتاب تصريف المازنيّ الذي عُني بعِلم الصّرف، وكذلك المبرّد، أمّا عُلماء الكوفة، فقد كان أبرزهم يعقوب بن السّكيت، وثعلب.
مرحلة التّرجيح
تُعدّ هذه المرحلة الأطول من بين المراحل الثّلاثة السّابقة؛ إذ بدأت من عام 293هـ وامتدّت إلى العصر الحاليّ، كما تتميّز هذه المرحلة بظهور موطن جديد يُعنى بعِلم الصّرف وهو بغداد، والذي هو مكان نّشأة هذه المرحلة، ثمّ بدأ العِلم بعدها ينتشر في بلاد العالم الإسلاميّ، ولكنْ وجب التّنويه إلى أنّ هذه المرحلة أنتجت مذهباً جديداً في هذا العِلم، وهو مذهب قائم على مبدأ المُفاضلة بين المذهب البصريّ والكوفيّ. الجدير بالذِّكر أنّ لِطول فترة هذه المرحلة، ظهرت العديد من المواطن التي تُعنى بعِلم الصّرف، بالإضافة إلى بروز الكثير من العُلماء والمُؤلّفات، وممّن تميّز في هذه المرحلة: (أبو سعيد السّيرافيّ)، و(أبو عليّ الفارسيّ) صاحب كِتاب (التّكملة)، و(ابن جنّي) صاحب كِتاب (التّصريف المُلوكيّ)، ومن العُلماء الذين ذاع صيتهم في هذه المدّة أيضاً (الزّمخشريّ)، و(ابن يعيش) صاحب كِتاب (التّكملة للفارسي)، و(ابن الحاجب) صاحب رسالة الصّرف المُسمّاة بـ(الشّافية)، وأيضاً (ابن عصفور) صاحب كِتاب (الممتع)، و(أبو حيّان الأندلسيّ) صاحب كِتاب (المبدع) الذي يُعدّ تلخيصاً لِكتاب (الممتع).
أهميّة عِلم الصّرف
تكمُن أهميّة عِلم الصّرف في توقّف العديد من العُلوم عليه، كعُلوم الّلغة والإملاء والنّحو، ويجب الإشارة إلى أنّ بعض العُلماء يرون أنّ عِلم الصّرف يتقدّم على عِلم النحو، ولكن ليس بالفضل إنّما لما يبحث فيه، فعِلم النّحو يبحث في “ذوات الكلام” وأحواله المُفردة دون الاطّلاع على التّركيب، ويجب الإشارة إلى أنّ تحليل الّلغة ودِراستها أصبح من خلال دراسة “الصّوت”، وهو أصغر الوحدات في الّلغة، فالصّوت إلى جانب آخر يُنتجُ “الكلمة المُفردة”، والكلمة المُفردة هي أساس دراسة عِلم الصّرف، أمّا جمع الكلمة مع الكلمة الأخرى لإعطاء معنى عند السّكوت عليه هُنا يخرج عِلم النّحو، فعِلم الصّرف إذن هو العِلم الوسط بين علم الأصوات وعِلم النّحو، وفيما يلي أمثلة على أهميّة اختلاف الصّيغ الصّرفيّة في فهم النّصوص:[٤]
المعنى الصّرفيّ المُختلف للفعل “كَرُمَ” في جُملة: كَرُم خالد على أهل بيته:[٦] |
---|
المِثال | التّوضيح |
---|---|
أكرمَ خالد أهل بيته. | أفادت الزّيادة هُنا بحرف “الأف” معنى آخر وهو التّعدية؛ أي أصبح الفِعل الّلازم فِعلاً مُتعديّاً. |
كرَّمَ خالد أهل بيته. | أفادت الزّيادة هُنا بـ”التّضعيف” معنى آخر وهو التّكثير والمبالغة؛ أي أصبح المعنى أنّه بالغ في تكريمهم. |
موضوعات عِلم الصّرف
إنّ المواضيع التي يتناولها عِلم الصّرف تتعلّق بأمرين هُما: (الأسماء المُعربة، والأفعال المُتصرِّفة)، ويندرج تحت الأسماء المعربة الحديث عن الصّيغ الخاصّة مِثل: المُجرّد والمزيد، والجامد والمُشتقّ، بالإضافة إلى المصادر والمُشتقّات مِثل: اسم الفاعل، واسم المفعول، ومما يندرج تحت الأسماء المعربة أيضاً الصّفة المُشبّهة، واسم التّفضيل واسم الزّمان، واسم المكان، والمُذكّر والمُؤنث، والأسماء المنقوصة والممدودة والمقصورة، بالإضافة إلى المُثنّى والجمع، والتّصغير والنّسب، أمّا المواضيع التي تندرج تحت باب الأفعال فهي توكيد الفعل المُضارع وفعل الأمر بنونيّ التوكيد الثّقيلة والخفيفة، والإسناد إلى الأفعال بأنواعها الثّلاثة إلى الضّمائر، ويجب الإشارة إلى وُجود أبواب مُشتركة بين الأسماء والأفعال، مِثل تناول حُروف الزّيادة والمواضع الخاصّة بها ومعانيها، كذلك الإلحاق، والحذف، والإعلال، وأيضاً الإبدال، والإدغام، والإمالة، والوقف.[٧]
المراجع
- ↑ محمد عيد حسن عبد النبي (2010)، دور مدرسة الكوفة في نشأة علم الصرف، مصر: جامعة القاهرة، صفحة 5،8. بتصرّف.
- ↑ ويلدان نافع (2016)، ” علم الصرف: نشأته وتطوره “، مجلة الدراسات الدينية، العدد 2، المجلد 4، صفحة 39،40،41. بتصرّف.
- ^ أ ب ت الدكتور حسان بن عبد االله الغنيمان، الواضح في الصرف ، السعودية: جامعة الملك سعود، صفحة 3،4،5،6. بتصرّف.
- ^ أ ب د. سمييرة حيدا، علم الصرف: لبنات وأسس، المغرب: جامعة محمد الأول بوجدة، صفحة 3. بتصرّف.
- ↑ د. أسماء محمد رفعت عبد الحكيم مراد (2017)، “انفتاح الدرس الصرفي بين المنهج والظاهرة”، مجلة كلية الآداب-جامعة السويس-، العدد 7، صفحة 171،172. بتصرّف.
- ↑ حنان جميل عابد (2011)، الصيغ الصرفية ودلالاتها في ديوان عبد الرحيم محمود ، غزة: بجامعة الأزهر، صفحة 32،32. بتصرّف.
- ↑ أ. د. مازن المبارك (2000)، “في تاريخ علم الصّرف ومصطلحاته”، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، العدد 19، صفحة 299. بتصرّف.