أهمية النقد الذاتي في إصلاح الفرد والمجتمع
النقد الذاتيّ
تختلف أنواع النَّقد، وتتعدَّد؛ وفقاً للميدان الذي يكون محلّاً للنقد، والتمحيص؛ فهناك النقد الأدبي، والفنّي، والسياسيّ، والاستراتيجيّ، ولاسيّما النقد الذاتيّ، حيث كان يُقال قديماً: (فلان نقدَ الدراهم)؛ أي ميَّزَ بين الحسن منها، والرديء، وفلان نقدَ الناس؛ أي بيَّنَ عيوبَهم، ومن خلال هذه المعاني، يتَّضح لنا معنى النقد الذاتيّ لغويّاً؛ إذ إنّه يعني: معرفة محاسن الإنسان، وعيوبه لنفسه؛ بهدف تحسين قبيحها، وتفعيل الحَسَن منها. ويعرّف النقد الذاتيّ عموماً بأنّه: نشاط إنسانيّ يتمكَّن فيه الإنسان من النظر إلى ذاته بحِكمة وعقلانيّة، فيبحث عن العيوب الظاهرة، والخفيّة في سماته، وسلوكه، ومُعتقَداته، وعواطفه، وأفكاره، على أن يبقى مُرشِداً لنفسه، ومستمِرّاً في محاولات فَهم ذاته، واكتشاف عيوبه؛ لتصحيحها، واستثمار طاقاته كلِّها.[١][٢]
أهمّية النقد الذاتيّ وأثره
في إصلاح الفرد
تتنامى أهمّية النقد الذاتيّ، وفاعليّته بمدى توظيف نتائجه في الحياة العمليّة، واستدراك الأخطاء بتصحيحها، والمباشرة في المُضيِّ بخطوات واثقة نحو مسارٍ ناضج، وقويم، وكما ينطبق هذا الأمر على الفرد، فإنّه ينطبق على المجتمع، وهنا يأتي تفصيل الخطوات التي يجدر بنا الإشارة إليها في حديثنا عن النقد الذاتيّ، وأهمّيته في إصلاح الفرد، والمجتمع؛ فالنقد الذاتيّ للفرد يبدأ بمراقبة النفس في حاضرها، وماضيها، مُنشغِلاً بأخطائها عن تتبُّع أخطاء الناس؛ ليتمكَّن من محاسبتها، وتقويم مسارها، وذلك بالإنصاف، والتعقُّل، والمُلاطَفة، فليس لنا غاية في المحاسبة، والتوبيخ؛ لأنّ الغاية هي تقويم السلوك، والفِكر، والارتقاء بمستوى الشخصيّة الإنسانيّة بكلّ أبعادها.[٣]
ومن الجدير بالذكر أنّه لا مَفرّ من وجود التحدّيات والصعاب في طريق المَهمّات العظيمة؛ إذ تكمن صعوبة النقد الذاتيّ الفرديّ في كونه أحد أشكال مواجهة الفشل، وهنا قد يقع الإنسان في فخّ اليأس والاسستسلام، ولكي يجنيَ ثمار تجربة نقده لذاته، فإنّ عليه أوّلاً أن يَقِيَ نفسه من الوقوع في اليأس؛ حتى يواصل المسير نحو إصلاح ذاته، وتنميتها. علماً بأنّ في النقد الذاتيّ فرصة للمصارحة، وتجربة لمدى صدق المرء مع ذاته؛ فمواجهة رغبات الإنسان، وشهواته، ونقاط ضعفه، ولحظات خذلانه، ليس بالأمر الهَيِّن، وهذا يقوده إلى اكتساب الشجاعة، والإصرار في تحمُّل مسؤوليّته الذاتيّة، مُغلِقاً الطرق أمام الإحباط، والمماطلة، ولذلك لا بُدّ قَبل البدء بالنقد الذاتيّ من تقدير الظروف المحيطة بك جيّداً، ومعرفة مدى تأثيرها في القرارات الشخصيّة، كما لا بُدّ من الاتّصاف بالرأفة واللين في التعامل مع الذات في لحظات الغضب، وفي لحظات اللوم؛ حتى لا يُفقَد الأمل من المحاولات، فيصبح الإنسان ممّن ظَلَم نفسه![٤]
في إصلاح المجتمع
لا يختلف اثنان على مدى صعوبة النقد الذاتيّ وتأثيره في الفرد، ممّا قد يمنعه من خَوض هذه التجربة، وعلى الرغم من النتائج المُبشِّرة، والتجارب الشاهدة على أنّها صفقة رابحة مع الذات، إلّا أنّ تجربة النقد الذاتيّ للمجتمع تبدو أكثر صعوبة، وتعقيداً؛ وذلك لارتباطها بعدّة عوامل رئيسيّة يتشاركها أفراد المجتمع، ومُثقَّفيه، وقادته المُؤثِّرين فيه؛ فالثقافة، والخطاب الإعلاميّ المُوجَّه للشعوب كلّها عوامل مُؤثِّرة بقوّة في طريقة نظرة المجتمع لواجباته، وحقوقه، وأسلوب تعامله مع ما يعترض طريقه من تحدّيات، ومواقف؛ فتزايُد الوعي، وثقافة المجتمع، وتحضُّره، يساهم مباشرة في فَهم المُتغيِّرات الطارئة عليه، ممّا يساهم في مقدرته على التعامُل معها بمستوىً حضاريّ يتناسب مع مستواه الثقافيّ.[٥]
وهنا يتركَّز المجهود على النُّخبة الثقافيّة، وقادة الرأي العامل في المجتمع، وأسلوب الخطاب المُوجَّه إليه من قِبَل وسائل الإعلام، فإذا كان الخطاب شعبويّاً تغلبُ عليه نبرة التحشيد، والشَّحن العاطفيّ، والتحريض الطائفيّ، أو القَبَليّ، دون مُسوِّغات منطقيّة، أو براهين مُثبَتة، فإنّ هذا الحال يُنبِئ عن مستوىً مُتواضع من الثقافة؛ إذ إنّ التوجيه للمجتمع الذي يبدو مُبرّراً لوسائل الإعلام، وقادة رأيه يبدو جَلَيّاً حينها، وهذا الحال يُعطِّل فاعليّة المجتمع، وقدراته الفِكريّة، والإنتاجيّة، والإبداعيّة، ممّا يُضيف إلى مَهمّة النقد الذاتيّ عِبئاً يحمله المُثقَّفون في استقلالهم عن موجة التحشيد السطحيّ، والتوجيه الغوغائيّ، وتَصدِّيهم لها، كما يضيف عِبئاً آخر إلى المجتمع، حيث يتمثّل هذا العبء في استعادة إيمانه بكيانه، وإمكانيّاته (المُعطَّلة)، فيتحلّى بمسؤوليّة المبادرة؛ لصناعة حاضره، والكفاح؛ لتشكيل مستقبله، وذلك على الضدّ ممّا كان يُملى عليه.[٥]
ومن الجدير بالذكر أنّ المجتمعات النرجسيّة تأبى أن تتقبَّل النقد الذاتيّ؛ فهي تعتقد أنّها أعلى من التقييم، والمحاسبة، وكأنّ لها نصيباً من العصمة، والعجيب أنّ المجتمعات الأقلّ مكانةً، وثقافةً، وتحضُّراً، تشتركُ مع هذه المجتمعات في عدم تقبُّلها للنقد الذاتيّ، مع فارق الدوافع؛ فالأخيرة لا تتقبَّل النقد الذاتيّ عَجزاً منها وتثاقُلاً عن الفعل، ومواجهة الذات، وفَقْد الإمكانيّات لاسترداد المكانة المنشودة لها، علماً بأنّ تقبُّل النقد الذاتيّ، والمبادرة نحوه، إنّما هو علامة من علامات تحضُّر المجتمع، ومُؤشِّرٌ على استعداده لترميم ماضيه، وصيانة حاضره، والنهوض بمستقبله، كما أنّ النقد الذاتيّ للمجتمع هو أولى علامات التعافي التي لا تخلو من بعض الآلام، وهو علامة على سلامة قلب المجتمع النابض بشبابه، ورُوّاده، ووسائل إعلامه الواعية الحُرّة.[٦][٥]
ويبدو ما سبق واضحاً، حيث يشهد التاريخ بذلك؛ فألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالَميّة الثانية، انكفأَت على نفسها مُنعزِلة عن التنافُس في قطار التقدُّم الحضاريّ، إلّا أنّها سرعان ما استفادت من هذه العُزلة لتصحوَ من غفوتها، وقد استفادت من ذلك الدرس الذي دفعت ثمنَه الباهظ، وكذلك اليابان التي حقَّقَت مُعجزة حضاريّة في علاج جراحها، والتعافي من آثار الدمار الشامل الذي خَلَّفته القنابل النوويّة في ناغاساكي، وهيروشيما، علماً بأنّ الشعبَين: اليابانيّ، والألمانيّ كان بمقدورهما أن يندبا حَظَّهما لعقود من الزمن، وأن يتباكيا، ويستدِرّا عَطف العالَم، وأن يبقيا مُطأطِئَي الرأس، مُنكَبَّين على التحديق بماضيهما، ومُستغرِقَين في التفاصيل المُؤلِمة، إلّا أنّ تلك الشعوب أثبتَت للعالَم، ولنفسها أوّلاً، أنّها لا تزال تتنفَّس الأمل، وتحيا على مُواصلة المسير دون كَلَل، مُعلِنةً عن ما انتابها من أزمات، وحروب، وخسائر فادحة، ومُوقِنة بمقدرتها على التعافي، واسترداد دورها الحضاريّ، وقد أصبحت بذلك نِدّاً شَرِساً لأعتى الأُمَم في السياسة، والاقتصاد، والتسليح، والثقافة.[٥][٦]
دور النَّقد البنّاء في بناء الفرد والمجتمع
ينضبطُ النَّقد البنّاء بالإنصاف، ونحن كأفراد، ومجتمعات، علينا أن نتحلَّى به، مُبتعِدين عن المبالغة في المدح، والإطراء، أو حتى في الذمّ، وجَلد الذات؛ فالنَّقد البنّاء يعتمد على قياس نطاق موضوعيّ، بذكر إيجابيّاته، وسلبيّاته فيما يظهر منه، دون الحُكم على النيّات، والمقاصد؛ لأنّ التعصُّب، والحُكم المُسبَق، وعشوائيّة التقييم، عوامل تُدمّر الناقد أوّلاً، وموضوع النَّقد ثانياً، وهي أبعد ما تكون عن اتّباع المنهج العِلميّ المُنصف في التحليل، والتقييم، والنَّقد، وممّا يُنمّي مَلَكة النَّقد البنّاء: دقّة الملاحظة، ومعها فيضٌ من التروّي، وتهذيب النفس الذي يتمثّل بالبُعد عن اتّباع الأهواء، والمُكابَرة، والتعنُّت للرأي، أو الإحجام عن قبول الحقّ، بالإضافة إلى أنّ الإخلاص، والموضوعيّة يساعدان على تحقيق حُسن القَصد، وطيب النيّة، والغاية النبيلة في رحلة النَّقد الذاتيّ نحو إصلاح ذواتنا، ومجتمعاتنا، بكلّ ما أُوتينا من طاقات، وقدرات، تُلهمُنا نحن، والأجيال القادمة.[٧]
المراجع
- ↑ “تعريف ومعنى النقد الذاتي في معجم المعاني الجامع”، almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 20-9-2018. بتصرّف.
- ↑ Liya Panayotova, “What is Self-Criticism”، explorable.com, Retrieved 20-9-2018. Edited.
- ↑ محمود روزن (16-12-2013)، “الطريق إلى النقد الذاتي”، alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 20-9-2018. بتصرّف.
- ↑ “مهارات النقد الذاتي البناء”، alghad.com، 3-5-2018، اطّلع عليه بتاريخ 20-9-2018. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث محمد المحمود (4-6-2018)، “النقد الذاتي والحماس الجماهيري”، alhurra.com، اطّلع عليه بتاريخ 20-9-2018. بتصرّف.
- ^ أ ب حسن مدن (30-6-2018)، “شيء ما النقد الذاتي”، alkhaleej.ae، اطّلع عليه بتاريخ 20-9-2018. بتصرّف.
- ↑ وائل عدس (17-11-2015)، “بين النقد البنّاء والهدّام-الابتعاد عن الهوى والتعصب والأحكام المسبقة والتجرد والإنصاف”، alwatan.sy، اطّلع عليه بتاريخ 20-9-2018. بتصرّف.