مثالك من طيف الخيال المعاود – الشاعر البحتري
مِثَالُكَ مِنْ طَيْفِ الخَيَالِ المُعَاوِدِ،
ألَمّ بِنَا مِنْ أُفْقِهِ المُتَبَاعِدِ
يُحَيّي هُجُوداً مُنْتَشِينَ مِنَ الكَرَى،
وَمَا نَفْعُ إهْدَاءِ السّلاَمِ لِهَاجِدِ
إذا هيَ مالَتْ للعِنَاقِ تَعَطّفَتْ،
تَعَطُّفَ أُمْلُودٍ، منَ البَانِ، مائدِ
إذا وَصَلَتْنَا لمْ تَصِلْ عَنْ تَعَمّدٍ،
وإنْ هَجَرَتْ أبدَتْ لَنَا هَجرَ عامِدِ
تُقَلّبُ قَلْباً مَا يَلينُ إلى الصّبَا،
وَمَنْزُورَ دَمعٍ عن جَوَى الحبّ جامد
تَمَادَى بها وَجدي، وَمُلّكَ وَصْلَهَا
خَليُّ الحَشَا، في وَصْلِها جِدّ زَاهِدِ
وَمَا النّاسُ إلاّ وَاجِدٌ غَيرُ مالِكٍ
لِمَا يَبتَغي، أوْ مَالِكٌ غَيرُ وَاجِدِ
سَقَى الغَيثُ أكنافَ الحِمَى مِنْ مَحَلّةٍ
إلى الحِقْفِ من رَملِ اللوى المُتَقاوِدِ
وَلاَ زَالَ مُخْضَرٌّ منَ الرّوْضِ يَانِع
عَلَيهِ، بمُحْمَرٍّ من النَّورِ جاسِدِ
يُذَكّرُنَا رَيّا الأحِبّةِ، كُلّمَا
تَنَفّسَ في جُنْحٍ مِنَ اللّيلِ بَارِدِ
شَقَائِقُ يَحمِلْنَ النّدَى، فكأنّهُ
دُمُوعُ التّصَابي مِنْ خُدودِ الخَرَائِدِ
وَمِنْ لُؤلُؤٍ في الأُمحُوَانِ مُنَظَّمٍ،
عَلى نُكَتٍ مُصْفَرّةٍ، كالفَرَائِدِ
كأنّ جَنى الحَوْذانِ، في رَوْنَقِ الضّحَى،
دَنانيرُ تبرٍ مِنْ تُؤَامٍ وَفَارِدِ
رِبَاعٌ تَرَدّتْ بالرِّيَاضِ، مَجُودَةٌ
بكُلّ جَديدِ الماءِ عَذبِ المَوَارِدِ
إذا رَاوَحَتْهَا مُزْنَةٌ بَكَرَتْ لَهَا
شآبيبُ مُجْتَازٍ عَلَيْهَا، وَقَاصِدِ
كأنّ يَدَ الفَتحِ بنِ خَاقَانَ أقْبَلَتْ
تَليهَا بتِلْكَ البَارِقَاتِ الرّوَاعِدِ
مَلِيّاً، إذا ما كانَ بادىءَ نِعْمَةٍ،
بكَرّ العَطَايَا البَادئَاتِ العَوَائِدِ
رَأيتُ النّدَى أمْسَى شقيقاً مُنَاسِباً
لأخْلاَقِهِ، دونَ الحَليفِ المُعَاقِدِ
تَلَفّتَ فَوْقَ القَائِمِينَ، فَطَالَهُمْ،
تَشَوُّفَ بَسّامٍ إلى الوَفْدِ قاعِدِ
جَهيرُ الخِطَابٍ يَخْفِضُ القَوْمُ عنده
مَعَارِيضَ قَوْلٍ كالرّياحِ الرّوَاكِدِ
يَخُضُونَ بالتّبجِيلِ أطْوَلَهُم يَداً،
وأظْهَرَهُمْ أكْرُومَةً في المَشاهِدِ
وَلَمْ أرَ أمثَالَ الرّجَالِ تَفاوَتَتْ
إلى الفَضْلِ حتّى عُدّ ألْفٌ بوَاحِدِ
وَلاَ عَيبَ في أخْلاقِهِ، غَيرَ أنّهُ
غَرِيبُ الإسَى فيها قَلِيلُ المُسَاعِدِ
مَكَارِمُ هُنّ الغَيْظُ بَاتَ غَليلُهُ
يُضَرَّمُ في صَدْرِ الحَسُودِ المُكايِدِ
وَلَنْ تَستَبِينَ الدّهْرَ مَوْضِعَ نِعْمَةٍ،
إذا أنتَ لمْ تُدْلَلْ عَلَيها بحاسِدِ
كَفَى رأيُهُ الجُلّى، وَألقى سَمَاحُهُ
نَفَاقاً على عِلْقٍ مِنَ الشِّعْرِ كاسِدِ
وإنّ مَقَامِي، حَيثُ خَيّمتُ، مِحنةٌ،
تُخَبّرُ عَنْ فَهْمِ الكِرَامِ الأجاوِدِ
وكاْئِنْ لهُ في ساحَتي منْ صَنِيعَةٍ،
قَطَعْتُ لَهَا عُقْلَ القَوَافي الشّوَارِدِ
وإنّي لَمَحْقُوقٌ ألا يَطُولَنِي
نَداهُ، إذا طَاوَلْتُهُ بالقَصَائِدِ
يَحُكْنَ لَهُ حَوْكَ البُرُودِ لزِينَةٍ،
وَيَنْظِمْنَ عَنْ جَدوَاهُ نَظمَ القَلائِدِ
وَحَسْبُ أخي النُّعمى جَزَاءً إذا امتطى
سَوَائِرَ مِنْ شِعْرٍ على الدّهرِ خالِدِ
مَلَكْتُ بهِ وِدّ العِدى، وَأجَدّ لي
أوَاصِرَ قُرْبَى في الرّجَالِ الأباعِدِ
جَمَالُ اللّيَالي في بَقَائِكَ، فَليَدُمْ
بَقاؤكَ في عُمْرٍ عَلَيْهِنّ زَائِدِ
وَمُلّيتَ عَيْشاً مِن أبي الفَتحِ، إنّهُ
سَليلُ العُلا، وَالسّؤدَدِ المُتَرَافِدِ
مَتى مَا يَشِدْ مَجداً يَشِدْهُ بهِمّةٍ
تَقَيّلَ فيها ماجِداً بَعْدَ مَاجِدِ
وإنْ يَطّلِبْ مَسْعَاةَ مَجدٍ بَعيدَةً،
يَنَلْهَا بِجَدٍّ أرْيَحيٍّ وَوَالِدِ
كَما مُدّتِ الكَفُّ المُضَافُ بَنانُها
إلى عَضُدٍ، في المَكْرُمَاتِ، وَسَاعِدِ
يَسُرّكَ في هَدْيٍ إلى الرّشدِ ذاهِبٍ،
وَيُرْضِيكَ في هَمٍّ إلى المَجْدِ صاعِدِ
لَهُ حَرَكَاتٌ مُوجِبَاتٌ بِأنّهُ
سَيَعْلُو، علو البدر بين الفراقد
مَوَاعِدُ لِلأيّامِ فيهِ، وَرَغْبَتِي
إلى الله في إنجازِ تِلْكَ المَوَاعِدِ
أأجْحَدُكَ النَّعْمَاءَ، وهيَ جَليلَةٌ،
وَمَا أنَا للبِرّ الخَفيّ بِجَاحِدِ
مَتَى ما أُسَيِّرْ في البِلادِ ركَائبي،
أجِدْ سائقي يَهْوِي إلَيكَ، وَقَائِدِي
وأكرَمُ ذُخْرِي حُسْنُ رَأيِكَ، إنّهُ
طَرِيفي الذي آوِي إلَيهِ، وَتَالِدِي