قصة تشكيل أحرف القرآن الكريم
أول من شكل المصحف
أنزل رب البرية – جل وعلا – القرآن الكريم على نبي الأمة بغير نقاطٍ ولا تشكيل، إذ أن العرب امتازوا بفصاحتهم وبيانهم وبلاغتهم، وكانوا يحفظنه عن ظهر قلبٍ ويتناقلون، وذلك لكونه نزل بلغتهم الأصلية مما جعلهم ليسوا بحاجة إلى تشكيله وتمييزه بالحركات الإعرابية، ولكن ما أن بدأت الفتوحات الإسلامية في التوسع وانضم للإسلام من هم ليسوا عرب وبدأوا يتعلمون اللغة العربية ليتمكنوا من قراءة القرآن، ولكن حين كانوا يقرأونه كانت هناك العديد من الأخطاء اللغوية التي يقعون فيها، ومن المؤسف أن ذلك كان على النحو الذي يغير من المعنى بل ويخل به تمامًا.
جاءت فكرة تشكيل القرآن الكريم ووضع نقاطه على الأحرف انطلاقًا من الحرص الشديد على تعزيز المعاني والبلاغة الربانية، وكي لا يصبح هناك مجالًا للخطأ في أثناء قراءته، وبدأت القصة حين دخل التابعي
أبو الأسود الدؤلي
إلى مسجدٍ ليصلي، فوجد رجلًا يقرأ القرآن، ثم أتى إلى قوله تعالى في سورة التوبة الآية 3 “إنَّ اللهَ بريٌ من المشركينَ ورسولَه”، فبدلًا من أن ينطق كلمة “رسولَه” بفتح اللام، نطقها بكسر اللام مما غير المعنى وجعله منافيًا تمامًا لمقصد الآية الحقيقي.
استاء كثيرًا أبو الأسود الدؤلي حين نطق الرجل الكلمة بتشكيلٍ مغيرًا للمعنى، مما دفعه إلى التفكير في حلٍ جذري يمنع ارتكاب مثل تلك الأخطاء، ويجعل من يقرأ يتقن قراءته حتى وإن كانت أول مرة يقرأ فيها القرآن، فاتجه مسرعًا مهرولًا لأمير المؤمنين “عليّ بن أبي طالب” – كرَّم الله وجهه – وقص عليه ما حدث وطلب منه أن يوفر له كاتبًا نبيهًا متمكنًا ولديه فطنة، فأرسل له أمير المؤمنين طلبه.
بدأ أبو الأسود مع الطالب، وطلب منه أن يرسم نقطة فوق الحرف إذا سمعه ينطقه مفتوحًا ونقطة أسفله إذا ما سمع الحرف مكسرورًا، ونقطة بجانبه إذا سمعه مضمومًا، وظلوا عاكفين على كتاب الله – سبحانه وتعالى – حتى انتهوا من وضع تلك الضوابط، وأصبحت القراءة حينها تعتمد على النقاط ووضعها من الحرف.
أول من ضبط أحرف القرآن
ظل العرب ويقرأن القرآن ويرتلنه منضبطًا على النحو الذي وضعه أبو الأسود حتى جاء “الخليل بن أحمد الفراهيدي”، الذي اهتم بوضع ضبطًا مفصلًا وأكثر دقة من ذاك الذي وضعه الدؤلي، فاختار أن يضع بدلًا من النقاط وأماكنها حرف الألف المبطوح، وهذا على النحو التالي:
- ألفًا مبطوحة فوق الحرف تدل على الفتحة.
- ألفًا مبطوحةً أسفل الحرف تدل على الكسرة.
- رأس الواو فوق الحرف تدل على الضمة.
ثم اتجه أيضًا لوضع نقاطًا على الأحرف لتمييزها وإعجامها وليست كما وضعها الدؤلي كعلامة للتشكيل، منذ ذلك الحين وقد تيسرت القراءة بشكل أكبر لكل من أراد أن يتلو القرآن، وبهذا يمكننا أن نلقب أبو الأسود بأنه أول من وضع النقاط في المصحف بينما أصبح “الخليل بن أحمد الفراهيدي” هو أول
من وضع النقاط على الحروف في اللغة العربية
.
أول من وضع قواعد اللغة العربية
حين تُذكر اللغة العربية وعلمائها الأجلاء فلا بُدَّ وأن يأتي أبو الأسود الدؤلي في مقدمتهم متربعًا على عرش القمة لما قام به من إسهامات عدة في ترسيخ القواعد اللغوية، فقد كان متميزًا ببراعته وقوة بيانه وتمكنه الذي لم ينافسه فيه أحد قط، واستدل على مدى براعته وعلمه الرزين حين أتى العجم وأحدثوا العديد من الأخطاء في نطقهم للكلمات العربية.
يُذكر أن جاءه أحد كبار التابعين يشكو له الأخطاء التي يقع فيها قُراء القرآن الكريم، فقال له: “ألا أعلمك أن الاسم هو ما دل على المسمى، والفعل هو ما دل على حركة المسمى، أما الحرف فهو ليس هذا ولا ذاك”، وعلى ذلك قامت قواعد النحو في لغتنا الأصيلة.
حكى آخرون عن رواية حدثت بين الدؤلي وابنته، حين نظرت إلى السماء متأملة فقالت: “ما أجملُ السماء” ونطقت كلمة “أجملُ” بضم اللام، فنظر لها أباها قائلًا: “النجوم”، فتعجبت من رده، ونظرت له قائلة: “ما قصدت ذاك يا أبي، بل قصدت التعجب من مدى جمال السماء”، فقال لها: “إذن، قولي ما أجملَ السماء” ونطق حينها كلمة “أجملَ” بفتح اللام.
وأكد الكثيرون أن تلك القصة كانت بداية الدافع الأساسي للدؤلي لنشر القواعد الصحيحة لنطق الكلمات بمقصدها، فقد شعر حينها أن اللغة بدأت تضعف بشكل كبير، وذلك لانتشار الكتثر من اللهجات والألسنة الغير عربية كالعجم وغيرهم، مما جعله يهتم بوضع أسس للنحو كي يتدارك كل من ينطق موقع الكلمة الإعرابيّ في الجملة ولا يجعل الفاعل مفعولًا ويشكل تشكيلًا غير منضبطًا، وبهذا أصبح أول
من وضع قواعد اللغة العربية
.
إنجازات أبو الأسود الدؤلي في اللغة العربية
قدَّم الكثير من الإنجازات اللغوية التي لم تقتصر فقط على تأسيسه لعلم “النحو العربي”، بل أسهم بشكل كبير في توضيح الدراسات المفصلة التي استفاد بها العلماء فيما بعد في علم النحو فضلًا عن مؤلفاته، فقام بما يلي:
- قام بتدريس المفاعيل في لغة الضاد.
- كتب بابًا كاملًا عن الفاعل.
- خص بابًا آخر للمفعول.
- أوضح ماهية المضاف إليه في بابٍ ثالث.
- فصَّل الرفع والجر، ثم سرد حروف النصب.
وغير ذلك الكثير من الإسهامات التي لا زلنا ننهل من نهرها حتى يومنا هذا، التي أبرزها تسهيل قراءة القرآن الكريم لكل من أسلموا حديثًا وكانوا غير متمكنين من اللغة العربية وقواعدها، ويروي المؤرخون أنه توفيَّ في العرق إثر إصابته بالطاعون، وتم دفنه في البصرة في العام التاسع والستين من الهجرة.
أول من وضع النقاط على الحروف
اختلف المؤرخون كثيرًا حول تلك النقطة وحول أول من قام باكتشاف الإعجام،
وأول من ضبط أحرف القرآن
فبعضهم رأى أنه “علي بن أبي طالب” – رضيَّ الله عنه – وآخرون يرون أنه “أبو الأسود الدؤلي”، وهناك من يظن أنه تلميذه “نصر بن عاصم الليثي”، وأخيرًا الفرقة التي قالت أنه “عبد الرحمن بن هرمز المدني”، فبالرغم من اختلاف هؤلاء المؤرخين إلا أن جميعهم اتفقوا حول أن الغرض الأساسي من انتهاج ذاك النهج في لغة الضاد كان حماية كتاب الله – عز وجل – وتحصينه، وذلك من خلال صيانة اللغة من أي خطأ قد يقع فيه كل من يقرأه.
ومن الجدير بالذكر هنا أن “نصر بن عاصم الليثي” هو صاحب أبرز دور في التمييز ما بين حرف الباء والتاء والياء وغيرهم من الحروف مثل السين والشين، والصاد والضاد، والطاء والظاء، والراء والزين، والدال والذال، وذلك من خلال وضع النقاط في مواضعٍ مختلفة تدلي بكل حرفٍ على حده، مما ييسر على القارئ بمجرد رؤيه الحرف أن ينطقه إضافةً إلى تشكيله سواءًا بالفتح أو الضم أو الكسر أو السكون.
وهذا ما نقله لنا المؤرخون فمنهم من أسند ذاك الإنجاز إلى “الخليل بن أحمد الفراهيدي”، وآخرون وسندأه إلى “نصر بن عاصم الليثي”، ولكن بالرغم من اختلافهم فإنهم اجتمعوا على أن لكل منهم إنجازه وإسهامه الذي لا يمكننا أن نبخسه حقه فيه، ولا زالت أسمائهم جميعًا راسخة ومرفرفة في السماء كالأعلام الذين تركوا بصمة لا تُنسى للغتنا العربية الأصيلة.[1]