تفسير الآية ” أم حسب الذين اجترحوا السيئات “

قال الله تعالى { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [سورة الجاثية: 21]


تفسير الآية الطبري

وقوله:

{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ }

يقول تعالى ذكره: أم ظن الذين اجترحوا السيئات من الأعمال في الدنيا، وكذبوا رسل الله، وخالفوا أمر ربهم، وعبدوا غيره، أن نجعلهم في الآخرة، كالذين أمنوا بالله وصدقوا رسله وعملوا الصالحات، فأطاعوا الله، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الأنداد والآلهة، كلا ما كان الله ليفعل ذلك، لقد ميز بين الفريقين، فجعل حزب الإيمان في الجنة، وحزب الكفر في السعير. عن قتادة

{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ }

، لعمري لقد تفرق القوم في الدنيا، وتفرقوا عند

الموت

، فتباينوا في المصير.

عن مجاهد في قوله:

{ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ }

قال  المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر، وعن ليث قال: بُعث المؤمن مؤمنًا حيًا وميتًا ، والكافر كافرًا حيًا وميتً. وقد يحتمل الكلام غير هذا المعنى الذي ذكرناه عن مجاهد وليث، وهو أن يوجه إلى:

{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ }

أن نجعلهم والمؤمنين سواء في الحياة والموت، بمعنى: أنهم لا يستوون، وقوله:

{ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }

يقول تعالى ذكره : بئس الحكم الذي حسبوا أنا نجعل الذين اجترحوا السيئات والذين امنوا وعملوا الصالحات ، سواء محياهم ومماتهم.


تفسير القرطبي

قوله تعالى:

{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ }

، أي اكتسبوها. والاجتراح : الاكتساب؛ ومنه الجوارح، وقد تقدم.

{ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ


}

، قال الكلبي:

{ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا }

عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. و

{ الَّذِينَ آَمَنُوا }

علي وحمزة وعبيدة بن الحارث – رضي الله عنهم – حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم. وقيل: نزلت في قوم من المشركين قالوا: إنهم يعطون في الآخرة خيرًا مما يعطاه المؤمن؛ كما أخبر الرب عنهم في قوله { وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } [سورة فصلت: 50].

وفي الآية استفهامٌ يفيد الإنكار والتعجب من هذا الظن، فكيف نُسوِّي بين الكافرين والمؤمنين، أو بين الطائعين والعاصين، فالذين انصرفوا عن دعوتك يا محمد، وظنوا أنْ نُسوِّيهم بالذين آمنوا ظنهم خاطئ، فشتَّان بين هذا وذاك، ولن نعاملهم كما نعاملكم، بل نعاملهم في الدنيا بالهزيمة، ونعاملكم بالنصْرة والتمكين، ونعاملهم في الآخرة بالعذاب، ونعاملكم بالنعيم والثواب.

وذكر ابن المبارك أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحا عن مسروق قال: قال رجل من أهل

مكة

: هذا مقام تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي

{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }

الآية كلها. وقال بشير : بتُّ عند الربيع بن خيثم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعدها ببكاء شديد. وقال إبراهيم بن الأشعث: كثيرًا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها، ثم يقول : ليت، شعري! من أي الفريقين أنت؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين لأنها محكمة.