تفسير الآية ” وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه “
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } [سورة الأحزاب: 53].
سبب نزول الآية { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ }:
قال
ابن عباس
: نزلت في رجل همَّ أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده، قال رجل لسفيان : أهي عائشة ؟ قال : قد ذكروا ذلك، وقال السدي : إن الذي عزم على ذلك
طلحة بن عبيد الله
رضي الله عنه، حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك، ولهذا أجمع العلماء قاطبة على من أن توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده، لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين كما تقدم، وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك وشدد فيه وتوعد عليه بقوله:
{ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا }
.
وقيل نزلت الآية في طلحة بن عبيد الله، قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا، لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه بعده، فأنزل الله هذه الآية، أخرجه ابن أبي حاتم وأخرج جوبير عن ابن عباس: أن رجلاً أتى بعض أزواج الرسول فكلمها، وهو ابن عم لها، فكره الرسول ذلك، فقال الرجل: يمنعني من كلام ابنة عمي، لأتزوجنها من بعده فنزلت الآية، قال ابن عباس: فأعتق ذلك الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشياً، توبة من كلمته.
تفسير الآية ابن كثير :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ }
حظر الله تعالى على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأخبرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة، ثم استثنى من ذلك فقال تعالى:
{ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ }
أي غير متحينين نضجه واستواءه، أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول، فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه؛ وهذا دليل على تحريم التطفيل وهو الذي تسميه العرب الضيفن (صنّف الخطيب البغدادي كتاباً في ذم الطفيليين وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها).
ثم قال تعالى:
{ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا }
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو غيره » [ أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عمر ]، وفي الصحيح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إليّ كراع لقبلت، فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل وانتشروا في الأرض ».
ولهذا قال تعالى:
{ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ }
أي كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث، قال البخاري عن أنس بن مالك: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل.
{ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ }
وقيل: المراد أن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه ويتأذى به، ولكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك، من شدة حيائه عليه السلام، حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك، ولهذا قال تعالى:
{ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ }
أي ولهذا نهاكم عن ذلك وزجركم عنه، ثم قال تعالى:
{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ }
أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن، ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب.
{ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ }
أي هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب، وقوله تعالى:
{ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا }
وذلك بأن من مات عنها رسول الله صل الله عليه وسلم لا يحل لأحد الزواج منها فهن أمهات للمؤمنين لأن ذلك يؤذي رسول الله صل الله عليه وسلم، ثم قال تعالى:
{ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
أي مهما تكنه ضمائركم وتنطوي عليه سرائركم، فإن الله يعلمه فإنه لا تخفى عليه خافية { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [غافر:19].