تفسير ” وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن “

{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «31»} [سورة النور: 31]


سبب نزول الآية:


يقول ابن كثير: هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات، وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكره مقاتل بن حيان قال: بلغنا أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات، فيبدو ما بأرجلهن من الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا، فأنزل الله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}.


تفسير الآية ابن كثير:



{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}:

أي عما حرم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن

{وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}:

قال سعيد بن جبير: عن الفواحش؛ وقال قتادة: عما لا يحل لهن؛ وقال مقاتل: عن

الزنا

؛ وقال أبو العالية: كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنا، إلا هذه الآية

: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}

أن لا يراها أحد، وقوله تعالى:

{ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}:

أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه.

قال ابن مسعود: كالرداء والثياب، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه، وقال

ابن عباس

: وجهها وكفيها والخاتم، وهذا يحتمل أن يكون تفسيراً للزينة التي نهين عن إبدائها، كما قال عبد الله بن مسعود: الزينة زينتان، فزينة لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينة يراها الأجانب، وهي الظاهر من الثياب.

وقال مالك {

إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}:

الخاتم والخلخال، ويحتمل أن يكون ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود عن

عائشة رضي الله

عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صل الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» [رواه أبو داود]


{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}:

يعني المقانع يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها، ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية، فإنهن لم يكن يفعلن ذلك، بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسافحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها، فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59] وقال في هذه الآية الكريمة:

{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}:

والخمر جمع خمار: وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس المقانع.

قال سعيد بن جبير

{وَلْيَضْرِبْنَ}:

وليشددن

{بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}:

يعني على النحر والصدر فلا يرى منه شيء، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله

{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}:

شققن مروطهن فاختمرن بها. وروى ابن أبي حاتم عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلاً وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، ولقد أنزلت سورة النور:

{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}:

انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل، فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صل الله عليه وسلم معتجرات كأنهن على رؤوسهن الغربان [أخرجه ابن أبي حاتم وأبو داود].


{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}:

أي أزواجهن

{أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ}:

كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها، ولكن من غير تبرج. فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله، فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره، وقوله:

{أَوْ نِسَائِهِنَّ}:

يعني تظهر بزينتها أيضاً للنساء المسلمات، دون نساء أهل الذمة، لئلا تصفهن لرجالهن، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع؛ فأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه، وقد قال رسول الله صل الله عليه وسلم: «لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» [أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعاً]


{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}:

قال ابن جرير: يعني من نساء المشركين، فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها؛ وإليه ذهب سعيد بن المسيب. وقال الأكثرون: بل يجوز لها أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود عن أنس أن النبي صل الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صل الله عليه وسلم ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك». وروى الإمام أحمد عن أم سلمة ذكرت أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه».


{أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ}:

يعني كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء، وهم مع ذلك في عقولهم وله ولا همة لهم إلى النساء ولا يشتهونهن، قال ابن عباس: هو المغفل الذي لا شهوة له. وقال مجاهد: هو الأبله، وقال عكرمة: هو المخنث الذي لا يقوم ذكره وكذلك قال غير واحد من السلف

{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}:

يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيراً لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، فإما إن كان مراهقاً أو قريباً منه بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكّن من الدخول على النساء.


{وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ}:

كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوتها ضربت برجلها الأرض، فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستوراً فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي، لقوله تعالى:

{وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ}:

إلى آخره، ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها، ومن ذلك أيضاً أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج، فقد روي عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع النبي صل الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم للنساء: «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق، عليكن بحافات الطريق»، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به [أخرجه الترمذي في السنن].

وقوله تعالى:

{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}:

أي افعلوا ما أمركم به من الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرزيلة، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله ورسوله، وترك ما نهى عنه.