بحث عن زهير بن أبي سلمى
زُهير بن أبي سُلمى
زهير بن أبي سُلمى هو أحد فحول الشعر في العصر الجاهلي، كما أنّه أحد الشعراء الثلاثة الذين قدمهم النقاد على كافة شعراء العرب وهم: امرؤ القيس، وزُهير بن أبي سُلْمى، والنابغة الذبياني، وقد اختلف النقاد أيّهم ظهر قبل صاحبيه، لكنهم لم يختلفوا في الثلاثة، وكان زهيراً شاعراً فذاً شهد له بذلك الكثيرون، وعَدّه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أشعر الشعراء، فقد قال ابن عباس رضي الله عنه: (خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- في أول غزاة غزاها فقال لي: (أنشدني لشاعر الشعراء)، قلت: (ومن هو يا أمير المؤمنين؟)، قال: (ابن أبي سلمى)، قلت: (وبم صار كذلك؟)، قال: (لأنّه لا يتبع حوشي الكلام، ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلّا ما يعرف، ولا يمتدح أحداً إلّا بما فيه)).[١]
نسب زُهير بن أبي سُلمى ونشأته وحياته
هو زهير بن أبي سُلْمى، ووالده أبي سُلمى هو ربيعة بن رياح بن عوام بن قرط بن الحارث بن مازن بن ثعلبة بن ثور بن هزمة بن لاطم بن عثمان بن مزينة بن أُد بن طابخة بن إلياس بن مضر، كُني بأبي سُلمى؛ لأنّ اسم ابنته سُلمى (بضم السين) كان اسماً مميزاً لم تُسمى به غيرها من بنات العرب آنذاك، ويعود نسبه إلى قبيلة مزينة، ومزينة هو اسم أمهم مزينة بنت كلب بن وبرة، وكُنية زهير هي أبي كعب، وقد ولد وترعرع في قبيلة أخواله بني غطفان، في كنف خاله بشامة الشاعر المعروف، وتزوج من ابنته أُمّ أوفى، وولدت له أولاداً ماتوا كلهم، ثمّ تزوج بكبشة بنت عمار الغطفانية، فغارت منها أُمّ أوفى ودفعتها غيرتها إلى إيذاء زهير فطلقها وهو محبٌ لها، وقد ذكرها كثيراً في شعره، وأنجبت كبشة له ثلاثة أبناء هم: كعب، وبجير، وسالم، ومات هذا الأخير في حياة أبيه حيث سقط عن فرسه ودقت عنقه، وقد حزن عليه زهير حزناً شديداً.[٢]
لم يستطع المؤخون تحديد تاريخ ميلاد زهير، إلّا أنّهم يرجحون أنّه ولد عام 520م أو عام 530م، مستندين في ذلك إلى تاريخ نَظْمِه لمُعلّقتِه التي أنشأها في مديح سيدين من بني مرة بعد انتهاء حرب داحس والغبراء والتي ترجح الروايات أنّها انتهت بين عامي 608-610م، وقد كان عمر زهير آنذاك ثمانين عاماً بدليل قوله في معلقته:[٢]
سَئِمتُ تَكالِيفَ الحَياةَ ومَنْ يَعِـش
- ثَمَانِينَ حَولاً لا أَبَا لَـك يَـسأَمِ
أخلاق زُهير بن أبي سُلمى
على الرغم من أنّ زهيراً بن أبي سُلمى لم يعاصر الإسلام، إذ توفي قبل بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنحو عامٍ إلّا أنّه كان يتحلى بأخلاق الإسلام، فقد كان صادقاً وفياً، ومسالماً محباً للآخرين، ومبتعداً عن الفواحش والمنكرات، كما كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فقد صنع لنفسه معتقداً بعيداً كل البعد عن معتقدات الجاهلية، وقد ظهرت هذه النزعة الدينية في شعره بشكل واضح وجلي، كما في قوله:[٣]
فَأَقْسَمْتُ بِالْبَيْتِ الذِّي طَافَ حَوْلَهُ
- رِجَـالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَجُرْهُـمِ
يَمِينـاً لَنِعْمَ السَّـيِّدَانِ وُجِدْتُمَـا
- عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحِيْلٍ وَمُبْـرَمِ
لقد كان شعر زهير صورة لحياته ومرآة لنفسه، فهو شاعر الخير الذي يدعو إلى السلم وإلى مكارم الأخلاق، كما أنّه يرسم المُثل التي كان يتحلى بها فيمن يمدحهم، وهو لم يمدح أحداً قط إلّا إذا كان أهلاً لذلك، وقد خلد التاريخ الذين مدحهم زهير في شعره، وذلك لما عُرِف عنه من صدق وبعد عن التملق.[٣]
أثر نشأة زُهير بن أبي سُلمى في نفسه وشعره
لقد كان لنشأة زهير في كنف أخوال أبيه أثر بالغ في شخصيته انعكس على شعره وأعطاه بعداً إنسانياً، فعلى الرغم من أنّه كان يعيش حياة كريمة في كنف أخواله لا سيما خاله الشاعر بشامة بن الغدير، إلّا أنّه كان يعاني من الغربة ويَحنّ إلى الديار، وهذا الحنين كان يثير مشاعره فيكشف عن رقي نفسه وحسن خلقه، وقد تأثر زهير بخاله بشامة بشكل كبيرمن الناحيتين الأخلاقية والشعرية، فقد كان بشامة رجلاً ثرياً ومن عِلْية القوم، وكان من أشعر شعراء غطفان، وعرف بحزمه واستقامته، ومن الأدلة على تأثر زهير بخاله تلك الرواية التي تقول: لم يكن لدى بشامة أولاد، فحين اقترب أجله أخذ يقسم ماله على خاصته، فجاء إليه زهير وطلب منه أن يورثه من ماله، فقال له: (يا خالاه لو قسمت لي من مالك؟)، فقال بشامة: (قد والله يا ابن أخت قسمت لك أفضل من ذلك، وأجزله)، فقال زهير: (ما هو؟)، قال بشامة: (شعري ورثتنيه)).[٤]
ومن بين الأشخاص الذين كان لهم أثرٌ جليّ في شعر زهير أيضاً، زوج أمه الشاعر أوس بن حجر، والذي تزوجته أمه بعد وفاة أبيه، وقد عُدّ أوس فَحل قبيلة مُضر في الشعر، فلزمه زهير حيث كان راوية لشعره، وهكذا كانت تلك العوامل مجتمعة هي التي صنعت زهير الشاعر والإنسان.[٤]
زُهير بن أبي سُلمى كشاعر
كان زهير بن أبي سُلمى سليل عائلة موهوبة بالشعر، فقد كان أبوه شاعراً، وخاله أيضاً، وأختاه الخنساء وسُلمى، وابناه كعب، وبجير، ثمّ استمر الشعر في عائلته أجيالاً، حيث ورث أحفاده أيضاً هذه الموهبة، وقال المؤرخون في ذلك: إنّه لم يتصل الشعر في أهل بيت كما اتصل في بيت زهير، وعاش زهير حياته في بحبوحة من العيش بما ورثه عن خاله بشامة من مال، وبما كان يجنيه عن طريق شعره، وقد مرت به حرب داحس والغبراء بين قبيلتي عبس وذبيان وعاش في أحداثها، ورأى ما تركته من صور البؤس والشقاء، وما خلفته من فقر ويُتم، فكان لهذا أثر كبير في نفسه وشعره، فنظم مُعلّقتَه داعياً فيها إلى الوفاء والبر، وهذا ما وجده في هرم بن سنان، والحارس بن عوف، إذ أنقذا القبيلتين من هذا البلاء، وحملا على عاتقهما ديات القتلى على مدى ثلاث سنوات، فأعجب زهير بهذا الصنيع وأمضى حياته يمدح هرماً ويشيد به، وهرم يجزل له العطاء.[٥]
وتعددت الأغراض الشعرية والفنية في شعر زهير شأنه في ذلك شأن سائر شعراء الجاهلية، وقد تأثر ببيئته وبما يدور بها من أحداث ومشكلات اجتماعية، فامتاز شعره بالحكمة وبالدعوة إلى الإصلاح ومكارم الأخلاق، واتّبع في بناء قصيدته نهج سائر شعراء عصره من حيث الوقوف على الأطلال، وذكر الديار، ووصف رحيل الأحبة، وعلى الرغم من أنّ الحب لم يشغف قلبه، ولم يعانِ من عذاب العشق، إلّا أنّه كان يتقمص حالة الحب والعشق التي يعيشها العاشق لكي يصْدُقَ في عاطفته عند رسم صوره التي كان يبدع في وصفها بكل دقة، وقد عُرِفَ زهير بالعفة والنبل، فجاء شعره خالياً من فحش القول، فهو لم يقدح في الهجاء أو يفجر في الغزل.[٥]
خصائص شعر زُهير بن أبي سُلمى والحكمة فيه
كان زهير بن أبي سلمى من أوائل رواد مدرسة الشعر الحولي المُنقّح، تلك المدرسة الشعرية التي أسسها أوس بن حجر الذي كان زهير راوية لشعره، وقد امتازت هذه المدرسة بوصف المرئيات والمحسوسيات بشكل دقيق وواضح، كما اعتنى شعراؤها بشعرهم عناية فائقة، من حيث التنقيح والتهذيب والمراجعة مرة تلو أخرى، ويُقال إنّ زهيراً كان ينظم قصيدته في أربعة أشهر، وتمكث عنده حولاً كاملاً ولا يذيعها بين الناس حتى تطمئن نفسه إلى جودتها، وقد سار ولداه كعب، وبجير، وراويته الحطيئة، والنابغة على نهجه في هذا المذهب.[٢]
وفيما يأتي أهمّ سمات وخصائص شعر زهير بن أبي سُلمى: [٢]
- أول ما يلفت النظر في شعر زهير الحكمة الصادقة، فشعره يفيض بالحكم الرائعة التي هي استخلاص تجارب عاشها الشاعر، وما شهده من صروف الدهر وتقلباته، لذلك عُدَّ زهير من شعراء الحكمة في العصر الجاهلي.
- من ناحية الألفاظ فقد كان زهيراً شديد الاهتمام باختيار الألفاظ، فتارة تأتي ألفاظه سهلة وتارة أخرى جزلة وقوية.
- من ناحية الأسلوب فقد امتاز شعر زهير بالبساطة والبعد عن التكلف والتصنع، وتكثر في شعره الصور الفنية مثل: الاستعارة، والتشبيه، والكناية، والطباق، فتزين هذه الصور شعره بشكل عفوي ودون قصد، إذ تأتي من ذوق الشاعر وموهبته.
- امتاز شعر زهير بصدق المعاني والبعد عن المبالغة وإذا اقتضى الحال بعض المبالغة، فإنّه يختار طريق المبالغة المقبولة.
مُعلّقة زُهير بن أبي سُلمى
لقد نظم زُهير مُعلّقتِه على إثر انتهاء الحرب بين قبيلتي عبس وذبيان، وكان الغرض منها مدح المصلِحين بين القبيلتين وتعظيم فعلهم، هذا لما فيه من حقن للدماء، ودعى فيها إلى السلام وإعادة الأمن والاستقرار، ورسم فيها طريق سعادة الإنسان التي لا تكون إلّا بالسلام، وأكثر زهير في مُعلّقتِه مِن الموعظة للكفّ عن الأحقاد والرجوع عن سفك الدماء، وبلغ عدد أبيات المُعلّقَة تسعة وخمسين بيتاً مقسمة على النحو الآتي:[٦]
- الأطلال: في بداية القصيدة صور دياره الحبيبة التي هُجرَت منذ عشرين عاماً، وأصبحت خراباً ومسكن للأبقار والظباء، وقد تغيرت ملامحها لدرجة أنّه لم يستطع التعرف عليها إلّا بعد طول تمعّن، فقال:[٦]
أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَـةٌ لَمْ تَكَلَّـمِ
- بِحَـوْمَانَةِ الـدُّرَّاجِ فَالمُتَثَلَّـمِ
وَدَارٌ لَهَـا بِالرَّقْمَتَيْـنِ كَأَنَّهَـا
- مَرَاجِعُ وَشْمٍ فِي نَوَاشِرِ مِعْصَـمِ
- الظعائن: ثمّ عاد بذاكرته إلى ساعة الرحيل التي كانت وقت السحر، فوصف الموكب وصور بهاءه وفخامته، إذ زُيّنت الهوادج بالأقمشة الثمينة، وفُرشت الرِحال بالفُرش الفاخرة، ومما قال:[٦]
بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحْرَنَ بِسُحْـرَةٍ
- فَهُـنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَـمِ
جَعَلْـنَ القَنَانَ عَنْ يَمِينٍ وَحَزْنَـهُ
- وَكَـمْ بِالقَنَانِ مِنْ مُحِلٍّ وَمُحْـرِمِ
- مدح الساعين في السلام: ثمّ أخذ يمدح شخصين مهمين قاما بالصلح بين قبيلتي عبس وذبيان، وحقنا الدماء، وتحملا دية القتلى، ومما قال مادحاً لهما:[٦]
يَمِينـاً لَنِعْمَ السَّـيِّدَانِ وُجِدْتُمَـا
- عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحِيْلٍ وَمُبْـرَمِ
تَدَارَكْتُـمَا عَبْسًا وَذُبْيَانَ بَعْدَمَـا
- تَفَـانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشَـمِ
- الحديث إلى المتحاربين: ثمّ خاطب المتحاربين ناصحاً لهم أن يخلصوا في نواياهم، وألّا يغدروا لأنّ الله سيحاسبهم على ذلك، ثمّ ذكّرهم بويلات الحرب ومصائبها وآلامها:[٦]
أَلاَ أَبْلِـغِ الأَحْلاَفَ عَنِّى رِسَالَـةً
- وَذُبْيَـانَ هَلْ أَقْسَمْتُمُ كُلَّ مُقْسَـمِ
فَـلاَ تَكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي صُدُورِكُمْ
- لِيَخْفَـى وَمَهْمَـا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَـمِ
- الحكمة: ثمّ زين أواخر مُعلّقَته بالحكم والمواعظ، مثال ذلك قوله:[٦]
وَمَنْ هَابَ أسبابَ الْمَنايا يَنَلْنَهُ
- وإنْ يَرْقَ أَسبابَ السَّماءِ بِسُلَّمِ
والحكمة التي ينطوي عليها هذان البيتان هي أنّ لا أحد يستطيع الفرار من قدره، والخوف من الموت لن ينجّيه وإن صعد إلى السماء بسلم.
وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بفضْلِهِ
- على قَوْمِهِ يُسْتَغنَ عنهُ وَيُذْمَمِ
المقصود هنا أن من يملك المال ويُمسك ماله عن قومه يُترَك، ويُذم، ويُذكر بالسوء.
وفاة زُهير بن أبي سُلمى
توفي زُهير عام 631م أي قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعام، وكان في أواخر عمره أن رأى رؤيا في منامه تنبأ بها بظهورالإسلام، إذ رأى كأنّه حُمِل إلى السماء وعندما اقترب من لمسها بيديه سقط إلى الأرض، فقص رؤياه هذه على ولده عندما كان يُحتَضَر، وقال له: (إنّي لا أشكّ أنّه كائن من خبر السماء بعدي، فإن كان فتمسّكوا به، وسارعوا إليه)، فصدقت رؤياه، وعند بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلم ولده كعب وأنشد قصيدته المشهورة في مدح رسول الله بانت سعاد.[١]
المراجع
- ^ أ ب مصطفلى الغلاييني، رجال المعلقات العشر، بيروت: المكتبة الشاملة، صفحة 30 ،29. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث سلمى أحمد (2008م)، الصورة الفنية في معلقة زهير بن أبي سلمى، السودان: جامعة الخرطوم، صفحة 6،11،12،13،24،25،26،28،29. بتصرّف.
- ^ أ ب مراكشي خديخة (2015)، شعرية زهير بن أبي سلمى بين الفن والأخلاق، الجزائر: جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي، صفحة 79-83. بتصرّف.
- ^ أ ب عصام صباح، التلقي والتأويل في شعر زهير بن أبي سلمى، الأردن- عمان: شركة دار الأكاديميون للنشر والتوزيع، صفحة 16-19. بتصرّف.
- ^ أ ب زهير بن أبي سلمى (1988)، ديوان زهير بن أبي سلمى (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الكتب العلمية، صفحة 4،5،8،9. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج ح علي الجندي (1991)، تاريخ الأدب الجاهلي (الطبعة الأولى)، بيروت: مكتبة دار التراث، صفحة 301-305. بتصرّف.