أشعار ذات حكمة

قصيدة إني لأعلم واللبيب خبير

يقول المتنبي:

إنّي لأعْلَمُ، واللّبيبُ خَبِيرُ،

أنْ الحَياةَ وَإنْ حَرَصْتُ غُرُورُ

ورَأيْتُ كُلاًّ ما يُعَلّلُ نَفْسَهُ

بِتَعِلّةٍ وإلى الفَنَاءِ يَصِيرُ

أمُجاوِرَ الدَّيْمَاسِ رَهْنَ قَرَارَةٍ

فيها الضّياءُ بوَجْهِهِ والنّورُ

ما كنتُ أحسبُ قبل دفنكَ في الثّرَى

أنّ الكَواكِبَ في التّرابِ تَغُورُ

ما كنتُ آمُلُ قَبلَ نَعشِكَ أن أرَى

رَضْوَى على أيدي الرّجالِ تَسيرُ

خَرَجُوا بهِ ولكُلّ باكٍ خَلْفَهُ

صَعَقاتُ مُوسَى يَوْمَ دُكّ الطُّورُ

والشّمسُ في كَبِدِ السّماءِ مريضَةٌ

والأرْضُ واجفَةٌ تَكادُ تَمُورُ

وحَفيفُ أجنِحَةِ المَلائِكِ حَوْلَهُ

وعُيُونُ أهلِ اللاّذقِيّةِ صُورُ

حتى أتَوْا جَدَثاً كَأنّ ضَرِيحَهُ

في قَلْبِ كُلّ مُوَحِّدٍ مَحْفُورُ

بمُزَوَّدٍ كَفَنَ البِلَى مِن مُلْكِهِ

مُغْفٍ وإثْمِدُ عَيْنِهِ الكافُورُ

فيهِ السّماحةُ والفَصاحةُ والتّقَى

والبأسُ أجْمَعُ والحِجَى والخِيرُ

كَفَلَ الثّنَاءُ لَهُ بِرَدّ حَيَاتِهِ

لمّا انْطَوَى فكأنّهُ مَنْشُورُ

وكأنّما عيسَى بنُ مَرْيَمَ ذِكْرُهُ

وكأنّ عازَرَ شَخْصُهُ المَقْبُورُ.

قصيدة لعَمْرُكَ، ما الدّنيا بدارِ بَقَاءِ

يقول أبو العتاهية:

لعَمْرُكَ، ما الدّنيا بدارِ بَقَاءِ؛

كَفَاكَ بدارِ المَوْتِ دارَ فَنَاءِ

فلا تَعشَقِ الدّنْيا، أُخيَّ، فإنّما

يُرَى عاشِقُ الدُّنيَا بجُهْدِ بَلاَءِ

حَلاَوَتُهَا ممزَوجَة ٌ بمرارة ٍ

ورَاحتُهَا ممزوجَة ٌ بِعَناءِ

فَلا تَمشِ يَوْماً في ثِيابِ مَخيلَة ٍ

فإنَّكَ من طينٍ خلقتَ ومَاءِ

لَقَلّ امرُؤٌ تَلقاهُ لله شاكِراً؛

وقلَّ امرؤٌ يرضَى لهُ بقضَاءِ

وللّهِ نَعْمَاءٌ عَلَينا عَظيمَة ٌ،

وللهِ إحسانٌ وفضلُ عطاءِ

ومَا الدهرُ يوماً واحداً في اختِلاَفِهِ

ومَا كُلُّ أيامِ الفتى بسَوَاءِ

ومَا هُوَ إلاَّ يومُ بؤسٍ وشدة ٍ

ويومُ سُرورٍ مرَّة ً ورخاءِ

وما كلّ ما لم أرْجُ أُحرَمُ نَفْعَهُ؛

وما كلّ ما أرْجوهُ أهلُ رَجاءِ

أيَا عجبَا للدهرِ لاَ بَلْ لريبِهِ

يخرِّمُ رَيْبُ الدَّهْرِ كُلَّ إخَاءِ

وشَتّتَ رَيبُ الدّهرِ كلَّ جَماعَة ٍ

وكَدّرَ رَيبُ الدّهرِ كُلَّ صَفَاءِ

إذا ما خَليلي حَلّ في بَرْزَخِ البِلى ،

فَحَسْبِي بهِ نأْياً وبُعْدَ لِقَاءِ

أزُورُ قبورَ المترفينَ فَلا أرَى

بَهاءً، وكانوا، قَبلُ،أهل بهاءِ

وكلُّ زَمانٍ واصِلٌ بصَريمَة ٍ،

وكلُّ زَمانٍ مُلطَفٌ بجَفَاءِ

يعِزُّ دفاعُ الموتِ عن كُلِّ حيلة ٍ

ويَعْيَا بداءِ المَوْتِ كلُّ دَواءِ

ونفسُ الفَتَى مسرورَة ٌ بنمائِهَا

وللنقْصِ تنْمُو كُلُّ ذاتِ نمَاءِ

وكم من مُفدًّى ماتَ لم يَرَ أهْلَهُ

حَبَوْهُ، ولا جادُوا لهُ بفِداءِ

أمامَكَ، يا نَوْمانُ، دارُ سَعادَة ٍ

يَدومُ البَقَا فيها، ودارُ شَقاءِ

خُلقتَ لإحدى الغايَتينِ، فلا تنمْ،

وكُنْ بينَ خوفٍ منهُمَا ورَجَاءُ

وفي النّاسِ شرٌّ لوْ بَدا ما تَعاشَرُوا

ولكِنْ كَسَاهُ اللهُ ثوبَ غِطَاءِ.

قصيدة دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَاءُ

يقول الإمام الشافعي:

دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَاءُ

وطب نفساً إذا حكمَ القضاءُ

وَلا تَجْزَعْ لنازلة الليالي

فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ

وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً

وشيمتكَ السماحة ُ والوفاءُ

وإنْ كثرتْ عيوبكَ في البرايا

وسَركَ أَنْ يَكُونَ لَها غِطَاءُ

تَسَتَّرْ بِالسَّخَاء فَكُلُّ عَيْب

يغطيه كما قيلَ السَّخاءُ

ولا تر للأعادي قط ذلا

فإن شماتة الأعدا بلاء

ولا ترجُ السماحة ََ من بخيلٍ

فَما فِي النَّارِ لِلظْمآنِ مَاءُ

وَرِزْقُكَ لَيْسَ يُنْقِصُهُ التَأَنِّي

وليسَ يزيدُ في الرزقِ العناءُ

وَلا حُزْنٌ يَدُومُ وَلا سُرورٌ

ولا بؤسٌ عليكَ ولا رخاءُ

وَمَنْ نَزَلَتْ بِسَاحَتِهِ الْمَنَايَا

فلا أرضٌ تقيهِ ولا سماءُ

وأرضُ الله واسعة ً ولكن

إذا نزلَ القضا ضاقَ الفضاءُ

دَعِ الأَيَّامَ تَغْدِرُ كُلَّ حِينٍ

فما يغني عن الموت الدواءُ.

قصيدة إذا المرءُ لا يرعاكَ إلا تكلُّفاً

يقول الإمام الشافعي:
إِذا المَرءُ لا يَرعاكَ إِلّا تَكَلُّفاً

فَدَعهُ وَلا تُكثِر عَلَيهِ التَأَسُّفا

فَفِي النَّاسِ أبْدَالٌ وَفي التَّرْكِ رَاحة ٌ

وفي القلبِ صبرٌ للحبيب ولو جفا

فَمَا كُلُّ مَنْ تَهْوَاهُ يَهْوَاكَ قلبهُ

وَلا كلُّ مَنْ صَافَيْتَه لَكَ قَدْ صَفَا

إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة ً

فلا خيرَ في ودٍ يجيءُ تكلُّفا

ولا خيرَ في خلٍّ يخونُ خليلهُ

ويلقاهُ من بعدِ المودَّة ِ بالجفا

وَيُنْكِرُ عَيْشاً قَدْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ

وَيُظْهِرُ سِرًّا كان بِالأَمْسِ قَدْ خَفَا

سَلامٌ عَلَى الدُّنْيَا إذا لَمْ يَكُنْ بِهَا

صديق صدوق صادق الوعد منصفا.

أشعار أبو العتاهية في الحكمة

قصيدة خُذِ النَّاسَ أوْ دعْ إنَّمَا النَّاسُ بالنَّاسِ

خُذِ النَّاسَ أوْ دعْ إنَّمَا النَّاسُ بالنَّاسِ

وَلا بُدّ في الدّنيا من النّاسِ للنّاسِ

ولسْتَ بناسٍ ذكرَ شيءٍ تريدُهُ

ومَا لمْ تُرِدْ شَيئاً، فأنتَ لهُ النّاسي

من الظُّلْمِ تشْغِيبُ أمرِئٍ ليسَ منصِفٍ

ومَا بامرِىء ٍ لم يَظلمِ النّاسَ من باسِ

ألاَ قلَّ مَا ينجُو ضميرٌ منَ المُنَى

وفيهِ لهُ منهُنَّ شعبَة ُ وسواسٍ

ولمْ ينجِ مخلوقاً منَ الموتِ حيلة ٌ

ولَوْ كانَ في حصْنٍ وَثيقٍ وَحُرّاسِ

ومَا المَرْءُ إلاّ صُورَة ٌ مِنْ سُلالَة ٍ،

يشيبُ ويفْنَى بينَ لمحٍ وأنْفاسِ

تُديرُ يَدُ الدّنْيا الرّدى بَينَ أهلِها،

كأنَّهُمُ شربٌ قُعُودٌ عَلَى كاسِ

كَفَى بدِفاعِ الله عَنْ كلّ خائِفٍ،

وإنْ كانَ فيها بَيْنَ نابٍ وأضراسِ

وكمْ هالكٍ بالشيءِ فِيمَا يكِدُّهُ

وكم من مُعافى ً حُزّ منْ جَبلٍ رَاسِ.

قصيدة هوَ المَوْتُ، فاصْنَعْ كلَّ ما أنتَ صانعُ

هوَ المَوْتُ، فاصْنَعْ كلَّ ما أنتَ صانعُ،

وأنْتَ لِكأْسِ المَوْتِ لاَ بُدَّ جارِعُ

ألا أيّها المَرْءُ المُخادِعُ نَفسَهُ!

رُويداً أتَدْرِي مَنْ أرَاكَ تخَادِعُ

ويا جامِعَ الدُّنيا لِغَيرِ بَلاَغِهِ

سَتَتْرُكُهَا فانظُرْ لِمَنْ أنْتَ جَامِعُ

وَكم قد رَأينا الجامِعينَ قدَ اصْبَحَتْ

لهم، بينَ أطباقِ التّرابِ مَضاجعُ

لَوْ أنَّ ذَوِي الأبْصَارِ يَرَعُوْنَ كُلَّمَا

يَرَونَ، لمَا جَفّتْ لعَينٍ مَدامِعُ

فَما يَعرِفُ العَطشانَ مَنْ طالَ رِيُّهُ،

ومَا يَعْرِفُ الشَّبْعانُ مَنْ هُوَ جائِعُ

وَصارَتْ بُطونُ المُرْملاتِ خَميصَة ً،

وأيتَامُهُمْ منهمْ طريدٌ وجائعُ

وإنَّ بُطُونَ المكثراتِ كأنَّما

تنقنقُ فِي أجوافِهِنَّ الضَّفَادِعُ

وتصْرِيفُ هذَا الخَلْقِ للهِ وَحْدَهُ

وَكُلٌّ إلَيْهِ، لا مَحَالَة َ، راجِعُ

وللهِ فِي الدُّنيَا أعَاجيبُ جَمَّة ٌ

تَدُلّ على تَدْبيرِهِ، وبَدَائِعُ

وللهِ في أسرارُ الأمُورِ وإنْ جَرَتْ

بها ظاهِراً، بَينَ العِبادِ، المَنافِعُ

وللهِ أحْكَامُ الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ

ألاَ فهوَ معْطٍ مَا يَشَاءُ ومَانِعُ

إذا ضَنّ مَنْ تَرْجو عَلَيكَ بنَفْعِهِ،

فذَرْهُ، فإنّ الرّزْقَ، في الأرْضِ، واسعُ

وَمَنْ كانَتِ الدّنْيا هَواهُ وهَمَّهُ،

سبَتْهُ المُنَى واستعبدَتْهُ المَطَامِعُ

وَمَنْ عَقَلَ استَحيا، وَأكرَمَ نَفسَه،

ومَنْ قَنِعَ استغْنَى فَهَلْ أنْتَ قَانِعُ

لِكلِّ امرِىء ٍ رأْيَانِ رَأْيٌ يَكُفّهُ

عنِ الشّيءِ، أحياناً، وَرَأيٌ يُنازِعُ.