وراءك عني يا عذول الأشايب – الشاعر البحتري
وراءك عني يا عذول الأشايب
بكلفة عذل بعد شيب الذوائب
ألم تعلمي أن ليس في الأرض مرأة
تقوم على حد اعتدال المذاهب
أعاذل ما نيلي مكان الكواكب
بأبعد عندي من وصال الكواعب
وعذلك مثل غذر فاقصري،
ولوم القعود الفحل إحدى العجائب
ألست إذا ميزت نفساً وعنصراً
من الواعدات المخلفات الكواذب
فليس لمثلي لوم مثلك جائزاً
لقد ساء مسموعاً خطاب المخاطب
تركت الصبا والغي قبل مداهما
وتركهما إياي بين النوائب
على حفظ عهد الحب في كل موطن
ينسي المحبين اذكار الحبائب
فيا أيها الخل الذي ليس تاركي
ومكوره دهري من صدود المجانب
فما أبصر الدنيا بعين دنوه
ولا وزر فيها للمحب المصاقب
ظلمتك إن شبهتك البدر طالعاً
وبالشمس يوم الدجن بين السحائب
لأن لكل منهما وقت غيبة
وأنك لا غيبت لست بغائب
وأن بوجه البدر محواً ولطخة
ووجهك ما فيه معاب لعائب
وأنك إن قيست محاسن جمة
إليك تناهت، أتعبت كل حاسب
ولست بناس عيشنا واغتباطنا
بعز شباب للحوادث غالب
وإدراكنا في ظله كل بغية
من العيش فاقت ساميات المطالب
فمنها إذا ما الجد كان أوانه
بلوغ المعالي الطيبات المكاسب
ومنها إذا ما الهزل حانت هناته
مني النفس في ستر عن الفحش حاجب
كؤوس من الصهباء تأبى اجتماعها
إذا انتشحت والهم في صدر شارب
جمعنا وأطيار الصباح نواطق
لنا ولها بين الذرى والحواجب
فكل سرور بالغناء وبالغنى
وبالفضل والجدوى على كل راغب
أعاذل إن اللوم منك غضاضة
على وإني لائم كل جانب
عرفت زماني فاعتذرت لحربه
ولما أضع عني ثياب المحارب
وجربت حتى ما أرى الدهر مغرباً
علي بصرف لم يكن محتوم بسوء العواقب
وما غرني حسن المبادي نه
من الهر محتوم بسوء العواقب
ولو لم يكن إلا توقع هابط
إذا لكفاني منكرات النوائب
لقد أحدثت فيه الليالي غريبة
مصدرة في أمهات الغرائب
تولى فصار الدهر شراً بأسره
صراحاً بلا شوب من الخير شايب
فإن نحص بالتفصيل منه مثالباً
تناهين نعجز قبل جمع المثالب
وإن نقتصر منه على وصف جملة
تدل على التفصيل، نعمل بواجب
على أن أدنى القول فيه مضيع
فكيف بأقصى القول فاصدق وقارب
وأعظم مما خصني من أذاته
على بقول صادق غير كاذب
جنايته في عذل نفسي وواحدي
علي فقد كانت أجل المصايب
شقيقي أبي إسحاق نفسي فداؤه
ورأس بقايا كل حر وكاتب
كذلك كانت نعمة الله تممت
بتخليصه عندي أجل المواهب
فهناه ما أولاه مولاه مسبغاً
عليه مزيداً جامعاً للرغائب
وأسعده بالصوم والفطر تالياً
وكل زمان بعد جاء وذاهب
وقل لأخي عني مقالة مخلص
له وده من دون أدنى الأقارب:
لعمري لقد صادقت لي من يودني
وعاديت لي الأعداء غير مراقب
فإن أنت واليت الصديق فوال بي
وإن كنت عاديت العدو فعاد بي
ولا يخل فيما بيننا من سفارة
مكان ابن إسماعيل أنسي وصاحبي
فنعم اختيار العالمين كلاهما
بما حصلا من كل غض الضرائب
على قصد دهر السوء إياهما معا
لفهمهما إياه فعل المناصب
وما كان عبدون الدني وهابط
سوى آية في الأرض من كل جانب
تنبئنا الدنيا بفرط هوانها
على الله في أضعاف تلك الكواكب
ولو سمع الدهر العتاب بمنطق
لأوجعته مني بحد المعاتب
ولكن دهراً ملك الوغد هابطاً
ومشارقها موصولة بالمغارب
فعم بشر أهلها وبلادها
وخص ذوي أقدارها بالمعاطب
هو الدهر قد أعلى أبا جهل الذي
أطيع بأرض الأكرمين الأطايب
فما آل في الإملاء حتى أصاره
إلى النار من بعد السيوف القواضب
ترى الناس طوع ابني نزار، وإنما
ترى ابني نزار طوع فهر وغالب
من الهاشميين الألى كلما دنوا
إلى هاشم خصوا بأعلى المناقب
وإن نزلوا في النسب من بعد هاشم
ببطن علوا في المجد أعلى المراتب
وإن حضروا الأيسار حازوا مدى العلا
وفازوا بقدح منجح غير خائب
وما قدحهم إلا المعلى، فمن أبى
فليس له إلا منيح الضوارب
وهم سبق السباق لكن عدوهم
سكيت إذا ما جد جري الحلائب
ألسنا مواليهم ولاء بنيهم
ولسنا مواليهم ولاء المحارب
فنحن لهم نسل الحسين وطاهر
ليانا، وللأعداء نسل المصاعب
إذا ما كرام الناس ساموا بملكهم
وبالفضل والأعراق عند المناسب
علت هاشم من بعد ذلك كله
سنام العلا فوق الذرى والغوارب
لهم ذل صعب المجد، يعلون ظهره
ويأبى سواهم أن يذل لراكب
وعدلهم من آخر المجد حادث
بأفعالهم يحدو قديم المناصب
وقد غصبوا ملكا ثمانين حجة
ومجدهم يعيي يدي كل غاصب
مدائحهم في كل أوب ووجهة
يغني بها الركبان فوق الركائب
أحلهم بيت النبوة منزلا
خلافته بين النجوم الثواقب
بيوت ملوك الناس يبنين في الربى
وهاشم مبنى بيتها في الكواكب
حياتهم وقف على كل مادح
وموتهم وقف على كل نادب
ولوا حرم الله المعظم قدره
وكانوا به حكام تلك الأخاشب
وكانوا خيار الجاهلية كلها،
مناكبهم في المجد أعلى المناكب
وولاهم الإسلام كل رياسة
ومنهم سنا الأعلام فوق المراقب
وكانوا حماة الناس في كل فزعة
وأجوادهم في الحصب أو في اللوازب
يفيضون ما هبت دبور وشمأل
وما عاينوا الصبا والجنائب
لهم علم فوق البنية ثابت
بكفي كريم للمكارم ناصب
فملك دهر السوء صاعد مجدهم
يدي هابط، يا للقنا والمقانب
إلى أن أراه الله قدرته التي
تهد منيعات الجبال الرواسب
فلله حمد زائد غير زائل،
وللكلب عز زائل غير راتب